اللغة العربية في كندا وتحديات الحفاظ على الهوية والتراث ـ أحمد الصالح

إنّ اللغة العربية في كندا ليست مجرد وسيلة تواصل إلى جانب اللغات الأم في البلد، وخاصة بين أبناء الجاليات العربية، أو المسلمة، وإنما هي حجز الزاوية ـ إن صح التعبير ـ في بناء الثقافة والهوية لأبناء الجالية في غربتهم، ويساعد على ذلك تنوع كندا الثقافي، وما تحتله اللغة العربية من مكانة خاصة بين فيسفساء اللغات المتداولة بين السكان والمقيمين في كندا. 

استخدام اللغة العربية في كندا 


تنتشر اللغة العربية بشكل واسع في عدة دول من العالم، منها كندا، وذلك لتزايد موجات الهجرة للعرب إلى هذه الدول خلال القرن الماضي بشكل عام، وفي العقد الماضي على وجه الخصوص، لذلك بات استخدام هذه اللغة في كندا من الأمور المتداولة مؤخراً مع تزايد أعداد المتكلمين بها. 

 

ترتيب اللغة العربية على مستوى كندا 


في التقرير الصادر عن "هيئة الإحصاء الكندية Statistics Canada" بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية في 16 ديسمبر 2022، ذكرت الهيئة ما يلي: 

·        تعد اللغة العربية هي اللغة الأم لـ629 ألف كندي، منهم 286 ألف يتحدثونها بشكل أساسي في منازلهم.

·        اللغة العربية من أسرع اللغات نمواً في كنداً، وقد ارتفعت نسبة الأفراد الذين يتحدثونها بنسبة 25% على الأقل في عام 2016.

·        تقريباً، يتم التحدث في اللغة العربية في كل مقاطعة وإقليم في كندا، وتسمعها بشكل أكبر في المدن الكندية الكبرى. 

·        في مونتريال "أكبر تجمع للناطقين بالعربية في كندا" تعد اللغة العربية هي اللغة الأم لـ220 ألف كندي.

·        في المرتبة الثانية تأتي تورنتو، مع عدد 121 ألف مواطن كندي لغته الأم هي اللغة العربية. 

كما أشاد التقرير نفسه باللغة العربية باعتبارها اللغة الخامسة الأكثر تداولاً على مستوى العالم، أما بالنسبة لكندا، فإذا استثنينا اللغتين الرسميتين في البلاد "الإنجليزية والفرنسية" فإن اللغة العربية في كندا يتم تداولها من قبل 28% من سكان كندا، وتأتي في المرتبة الرابعة بعد كل من التغرينية "لغة دول شرق إفريقيا" والتاغالوغية "لغة مستخدمة بكثرة في الفلبين" والتركية "المتداولة في تركيا وبعض دول شرق آسيا"، وذلك بحسب تقرير آخر لهيئة الإحصاءات الكندية، حول التنوع اللغوي في كندا. 

هل اللغة العربية مطلوبة في كندا؟ 


لا تعتبر اللغة العربية مطلوبة بشكل كبير في أسواق العمل، على الأقل حالياً، إلا أنها قد تطلب لبعض الوظائف الخاصة بالعلاقات العامة والدولية وخدمات الترجمة المرتبطة باللغة العربية بشكل مباشر. 

ولكن على المستوى الاجتماعي والثقافي يزداد الالحاح على اعتبار اللغة العربية في كندا مطلوبة وإتقانها مطلوب كذلك، من أبناء الجالية العربية للحفاظ على هويتهم، والتأثير الإيجابي في التنوع الثقافي الفريد الذي تتمتع به كندا. 

هل توجد مدارس عربية في كندا؟ 


نعم، توجد الكثير من المدارس العربية والإسلامية، والتي تهتم بتدريس اللغة العربية وتقوية مهاراتها لدى أبناء الجاليتين العربية والمسلمة، كما توجد الكثير من المبادرات الفردية والجماعية لتقديم دورات باللغة العربية إما بشكل مباشر أو عن بعد، وقد راج هذا النوع من التعليم للعربية مع تزايد عدد المهاجرين العرب، وزيادة نسبة الكنديين ذوي الأصول الكندية. 

دور اللغة العربية في الحفاظ على هوية العرب في كندا


إنّ اللغة العربية في كندا هي جزء من التنوع الحضاري والثقافي الذي توفره البلاد لسكانها، في الوقت الذي يعتز فيه كل كندي بلغته وثقافته وأصوله، لا بد للعربي أن يكون بنفس المستوى من الفخر والاعتزاز. 

وللحفاظ على الهوية العربية على مر الأجيال القادمة، لا بد من معرفة الدور الكبير الذي تلعبه اللغة العربية في الحفاظ على هذه الهوية وصيانتها. 

العربية جسر لمعرفة تاريخ وحضارة العرب


بالنسبة للكنديين ذوي الأصول العربية، فإنّ لغتهم أكثر من مجرد كلمات؛ إنها بوابة للنسيج الغني للتاريخ والحضارة العربية، إذ أنه من خلال التحدث باللغة العربية وفهمها، يتمكن للمغتربين من الوصول إلى الكنوز الأدبية للشعراء والعلماء العرب، والتأملات الفلسفية للمفكرين القدماء، وقصص أسلافهم، وتصبح اللغة العربية هي الجسر الذي يربطهم بالذاكرة الجماعية لشعوبهم.

من يتكلمون العربية أقرب إلى قضايا بلادهم المجتمعية والسياسية 


يعد البقاء على اطلاع بالقضايا الاجتماعية والسياسية في بلداننا الأم مصدر قلق كبير فيما يخص الأجيال القادمة، التي قد تكون بعيدة عن قضاياها الأم، لذلك تتيح لهم اللغة العربية في كندا البقاء على اتصال بالأخبار والأحداث والنقاشات التي تجري في أوطانهم الثانية، وهذا الارتباط يعزز من إمكانية مشاركتهم النشطة في كل ما يخص دولهم ومجتمعاتهم التي تعود أصولهم إليها.  

تعلم اللغة العربية يبقي على أمل العودة لدى الأجيال القادمة 


بالنسبة للأسر العربية المهاجرة، يعد تعليم اللغة العربية لأطفالها وسيلة لضمان نقل التراث والقيم العزيزة لديهم إلى الجيل القادم، فذلك يوفر للشباب الكنديين العرب ارتباطًا قويًا بجذورهم الثقافية، ويغرس الشعور بالفخر والانتماء، وهو نوع من أنواع الاستثمار في المستقبل، يمنح شباب الجيل الحالي والأجيال القادمة إحساساً أكبر بهويتهم العربية، ويحفظ لديهم هدف العودة للمشاركة في بناء أوطانهم، وصياغة مستقبلها الآمن.  

العربية لغة ذات بعد ديني وحضاري مهمين 


للعربية أيضاً دورها البارز في الممارسات الدينية للمسلمين، كقراءة القرآن الكريم وهو أقدس الكتب الإسلامية، والذين نزل باللغة العربية، ما يجعل لهذه اللغة قداسة خاصة لدى مئات الملايين من المسلمين حول العالم وليس فقط داخل كندا. 

كذلك تعتبر اللغة العربية جزءاً مهماً من العبادات والاحتفالات الدينية، والنشاطات الثقافية الإسلامية، التي تعمق الارتباط لدى المسلمين والعرب الكنديين بديانتهم وإيمانهم. 

تعلم أكثر من لغة عنصر قوة لدى الجيل القادم 


لا ينفي تعلم اللغة العربية في كندا أن يكون العربي متقناً لغيرها من اللغات الرسمية في البلاد، كالإنجليزية والفرنسية، أو غيرها من اللغات الأخرى، وذلك يعد عامل قوة بالنسبة له، ويستزيد بتعلمه العربية مع غيرها مهارات فريدة. 

كما أنّ التنوع الثقافي يتعزز مع تعدد اللغات، حيث لا تتوقف اللغة عند البعد الأكاديمي والمهني لها، بل تحفز التفاهم بين الثقافات المختلفة، وسد الفجوات الحضارية، ويمكن للعربي متعدد اللغات أن يكون سفيراً لثقافته العربية أمام غيره، وسفيراً للثقافات الأخرى بين أبناء الجالية العربية، وهذا جزء مهم من الحياة متعددة الثقافات في كندا. 

تحديات أمام تعلم اللغة العربية في كندا 


فيما يتعلق بدراسة اللغة العربية من الصفر للأجيال الجديدة التي لم تنشأ في أوساط عربية يعتبر الأمر تحدياً حقيقياً، ومن أهم ملامح هذا التحدي: 

صعوبة تعلم اللغة العربية نسبياً 


تعد قواعد اللغة العربية بعيدة كثيراً عن قواعد اللغات الرسمية في كندا، بداية من أشكال الحروف غير المألوفة بالنسبة للطفل، مروراً بطريقة الكتابة المختلفة عن الكتابة باللغات الغربية، حيث تكتب العربية من اليمين إلى اليسار، وصولاً إلى صعوبات أخرى تتعلق بالقواعد النحوية والإملائية. 

ولذلك لا بد لدراسة هذه اللغة أن تتم وفق منهج تعليمي متكامل، وليس على شكل هواية أو ملء أوقات فراغ، مع ضرورة وجود مثابرة لدى الطالب للتمكن من إتقان العربية وتجاوز هذه الصعوبات. 

صعوبة نطق العربية على غير المعتادين عليها  


من الأمور التي يستصعبها الأطفال هو نطق الحروف العربية، وخاصة تلك المقاطع الصوتية غير الموجودة في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، مثل "القاف" و "العين".

يتطلب التغلب على هذا التحدي تدريباً من متحدثين أصليين سواءً من الأهل أو معلمين ذوي خبرة في هذا المجال، لتحقيق طلاقة اللسان في نطق اللغة العربية. 

نقص الموارد لتعليم اللغة العربية في كندا 


إن موارد دراسة اللغة العربية لا زالت محدودة في كندا، على الرغم من وفرة المراكز التعليمية، إلا أنها لا زالت دون المستوى الموازي للغات الأخرى، مما يعيق الحصول على فرصة دراسية مثمرة أو ذات نتائج قوية في غالب الأحيان، ولذا يتطلب هذا الجانب رعاية أكبر من المراكز والمعاهد والمدارس المتخصصة في تدريس اللغة العربية، وإعداد المناهج للطلاب ودمج عملية التعليم بشكل أكبر مع التقنيات الحديثة. 

عدم الاستفادة من اللغة العربية بشكل واسع في فرص العمل في كندا 


من منظور مادي قد يعتبر البعض، وخاصة الشباب، أنّ انشغالهم بتعلم اللغة العربية في كندا لن يكون مجدياً من الناحية المهنية، فهي غير مطلوبة كشرط أساسي في 99% من المهن والوظائف المعروفة في كندا، وتقتصر إلزامية إتقان اللغة العربية في مجالات محدودة، كالدبلوماسية الدولية، والتجارة، والترجمة، كما ذكرنا سابقاً في هذا المقال.

لذلك قد تكون فكرة تحفيز الشباب لتعلم العربية من أصعب الخطط القابلة للتطبيق، ما لم تكن هناك محفزات فعلية على شكل فرص عمل، أو إمكانية الترقية الوظيفية في بعض المهام والمهن بوجود اللغة العربية. 

 

اللغة العربية في كندا من اللغات التي صار من الطبيعي أن تسمعها في الأسواق وأن تقرأها على الكثير من اللافتات والمنتجات، وأن يتم تداولها في المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي، وصارت مادة مهمة في العديد من المدارس العربية والإسلامية، لذلك هي لغة ذات مستقبل واعد في كندا، وقد يكون الاستثمار في توعية الأجيال ذات الأصول العربية لأهمية لغتهم من الاستثمارات ذات الجدوى المربحة مستقبلاً، على الصعيد المادي والثقافي.