تاريخ الإنتاج، تاريخ الانتهاء، المكوّنات كلام كثير وتفاصيل رتيبة تجدها على غطاء علبة الجبنة عندما تفتح باب الثّلّاجة، وتجد مثيلها على هاتفك عندما تقرّر إضافة تطبيقٍ جديدٍ حيثُ الكثيرُ من التّفاصيل حول تصميمه وجدارته وتقييمه، تتّجه لمقابلة صديق مضى وقتٌ طويل على رؤيته؛ فتتفاجأ بأنّ المحادثة باردة جدًّا تخلو من العواطف، ألا ترى أنّ كلّ هذا يعود إلى سبب واحد أصله المعايير الرّتيبة الّتي أصبحت تفرض كينونةً على دقائق الحياة، فهي على المعلّبات وأكياس التّسوّق والسّاعة المعلّقة وعلبة السّجائر حتّى الكلمة المسموعة منضبطة بتلك المعايير؟
لقد تمكّنت منّا هذه المعايير في مدّ براثنها على كلّ التّفاصيل اليوميّة المعيشة، وتستند أساسًا على ما ينبغي وما لا ينبغي، فهذا الاجتياح أصبح مُريبًا بعض الشّيء، حتّى أنّك تجدُ نفسك حائرًا في شراء المنتج الأكثر جودةً بناء على ما وُصف به، ولا مشكلة في هذا كلّه وإنّما المعضلة تكمُن في كلامنا اليوميّ.
فقد صارت الكلمة تتقولب في تابوهات جاهزة وباردة لتقال؛ فإذا قيل لك: صباح الخير الرّدّ الجاهز سيكون: صباح الخير، كيف حالك؟ الرّدّ الجاهز سيكون: بخير وبعدها تبدأ بالحديث حول الطّقس وصعوبته، الكلمات أصبحت تمشي على نبراس خافت ومعيار واحد مواصفاته وُحِّدَت بين مختلف الأقطار، حتّى إذا أصبحتَ تريد إجراء حوار تحتاج إلى معادلات طويلة ورحلة حسابيّة لترى بما تستطيع الخوض وبما لا تقدر عليه، فهناك الكثير ممّا يُمسِك عليك حرّيتك، وأمّا مسألة أن تكون عفْوِيًّا فلا تُحسَب كثيرًا فتلك حُجّة واهية لا تُصوّغها غير عقول لطيفة لا تبالي.
صارت الحياة مقيّدة ومكبّلة بما اصطُنِع فيها، ولكنّ النّفس أحيانًا تشدو وتهدأ لما يخرج عمّا يجب وما لا يجب؛ تمامًا كما نرى في الأحلام حياة غير محكومة بزمان أو مكان، فلا نظام ولا معقوليّة في أحداثها ولكنّها العالم الأكثر مكاشفةً وحقيقةً بعيدًا عن صوت الرّيبة والنّفاق والمجاملة؛ فهي الحقيقة الّتي يحبّها الإنسان.
ولكن بقَدْر حبِّ الإنسان للانفلات من هذه المعايير فإنّ التّمسّكَ بها والانطلاق منها مهمٌّ في كثير من مجالات الحياة اليوميّة الّتي تعاديك إن لم تكن بلا أُسسٍ أو نظام يحكمها، فهي عامّةً مفاتيحٌ لأكثر المواقف ضرورةً وحرجًا أمام أشخاصٍ لا يُفضِّلون حَدْسهم وعاطِفَتَهم ولا يَسعَوْن لإرضاء قلوبهم المرهقة.
بقلم: ملك أبو طوق