ورجعت الشتوية..
أكتب مقالي هذا والثلج يتساقط لأول مرة لهذا الموسم ويغطي الطرقات، وحديقتي متوشحة باللون الأبيض اللؤلؤي وصوت جارة القمر فيروز يصدح بأغنية "رجعت الشتوية" التي أوحت لي بكتابة هذا المقال ..
فعلياً وبحسب علماء الأرصاد يبدأ الشتاء في الحادي والعشرين من ديسمبر وينتهي في الحادي والعشرين من مارس في العام الذي يليه، لكن هنا في كندا عادة ما يسقط الثلج في نوفمبر بصورة متقطعة وقد يمتد الشتاء حتى أخر شهر إبريل..
فصل الشتاء رغم برودته إلا انه الأكثر دفئاً من بين كل الفصول، والدفء هنا لا ينبعث فقط من المدفأة ولكنه يأتي من حميمية الاجتماعات الأسرية، ولذلك لو بحثنا في الذاكرة سنجد الكثير من المشاهد تم تدوينها من فصول الشتاء المتعاقبة..
مشاهد وروائح وأصوات من الذاكرة ..
فصل الشتاء يشعل فتيل الحنين للماضي ، فيحلو لنا فيه استحضار مشاهد من الذاكرة لنستمد الدفء من الذكريات المرتبطة به.. لا يكف قلبي عن الضجيج وأنا أستحضر مشهد اللمة العائلية حول الموقد أو الصوبا، أذكر كيف كنا نلف أنفسنا بالأغطية ولا تظهر إلا وجوهنا في ليالي الشتاء الباردة، وأكواب المشروبات الساخنة تتنقل بين أيادينا..أذكر كيف كنا نتخاطف حبات الكستناء من بعضنا البعض، في السهرات الشتوية كان يحلو لنا سماع الحكايا من الكبار، كنا نجتمع حول المذياع لمتابعة برامج مسموعة، أو نجلس أمام جهاز التلفاز الذي كان يبث من قناة واحدة، اليوم ومع وجود عدة أجهزة تلفاز في البيت الواحد وأجهزة الهواتف الذكية ومع اختلاف الأذواق تفرقت اللمة العائلية ولم يعد للشتاء وهجه وسكن الصقيع البيوت رغم كل وسائل التدفئة المختلفة..
الذاكرة لا تحتفظ فقط بمشاهد، فهي تحتفظ أيضاً بالروائح والأصوات أيضاً.. من الروائح التي تحتفظ بها ذاكرتي من فصل الشتاء، رائحة الأرض بعد أن تغتسل بحبات المطر..رائحة الخبز المحمص على الكانون ، رائحة القرفة المنبعثة من مشروب السحلب الشتوي ، رائحة البطاطا الحلوة و الكستناء المشوية.. رائحة الجمر المحترق، وأشياء كثيرة أخرى..
أما الصوت الأكثر حضوراً في ذاكرتي فهو صوت حبات المطر المتساقطة على الأسطح، معزوفة في غاية الرومانسية خاصة عندما تصاحبه أغنية من أغاني فيروز التي غنت كثيراً للشتاء ودونت مشاهد قمة في الرومانسية أخذت مكانها في الذاكرة بجدارة.
من منا لم يدندن معها " شتي يا دنيا شتي ..تايزيد موسمنا ويحلى " ومن منا لم يعش قصص الحب التي دونتها من خلال أغانيها الشتوية " قديش كان في ناس عالمفرق تنطر ناس، وتشتي الدني ويحملوا شمسية...الخ".
أيضاً كان يعجبني صوت طقطقة الحطب المشتعل في الكانون وفرقعة حبات الكستناء على الصوبا ..ويأتي صوت الريح والرعد ليكملا سيمفونية الشتاء.
من منا لم يبتهج لرؤية قوس قزح بعد المطر، ورؤية البرق في الليالي الممطرة ..كلها مظاهر احتفالية مبهجة مرسومة بعناية ودقة مدهشة لأنها مظاهر ربانية لا دخل لنا كبشر فيها..
من منا لم يرسم على الضباب المتكاثف من أنفاسنا على زجاج النوافذ الباردة ، من منا لم يغتسل بالمطر يوماً عمداً أو بسبب غياب المظلة.
أما أكثر ما يعجبني في فصل الشتاء، فهي لمسة الأناقة التي تصاحب هذا الفصل، حقيقة أجد في الملابس الشتوية جمالية خاصة تسكن في التفاصيل الصغيرة التي يحرص كل منا على ارتدائها كالمعاطف والقبعات، والوشاحات الأنيقة التي نلف بها أعناقنا والقفازات والمظلات التي نتفنن في انتقائها..
الشتاء فصل الحب والحنين..
الشتاء بكل ما فيه من مشاهد ملهمة كان حاضراً بقوة في لوحات الرسامين، فقد رسم الفنان الفرنسي صاحب المدرسة الانطباعية كلود مونيه أكثر من 100 لوحة دون فيهما مشاهد من فصل الشتاء.
أيضاً كان الشتاء حاضراً في الكثير من النصوص الشعرية، فقد كتب له نزار قباني قصيدته المشهورة " حقائب الدموع والبكاء" فقال:
إذا أتى الشتاء، وحركت رياحه ستائري..أحس يا صديقتي بحاجة إلى البكاء، على ذراعيك، على دفاتري
إذا أتى الشتاء، وانقطعت عندلة العنادل..وأصبحت كل العصافير بلا منازل
يبتديء النزيف في قلبي وفي أناملي..كأنما الأمطار في السماء تهطل يا صديقتي في داخلي
وفي "حضرة الغياب" للراحل محمود درويش لم يغب فصل الشتاء فقال:
" للحنين فصل مدلل هو الشتاء، يولد من قطرات الماء الأولى على عشب يابس، فيصعد زفرات استغاثة أنثوية، عطشى إلى البلل...وعد بزفاف كوني هو المطر..وعد بانفتاح المغلق على الجوهر، وحلول المطلق في ماهياتٍ هو المطر".
أما الشاعر محمد الماغوط في قصيدته "حكايات الشتاء" فيقول:
"أيتها الأرصفة عانقيني، أيتها الثلوج دثريني...أيتها الريح العجوز، احكي لي قصة الشاطر حسن ، وعلاء الدين، والفانوس السحري ولص بغداد والسندباد البحري، وكل الحكايات الخيالية في ذاكرة الشيوخ والأطفال"..
فصل الشتاء في كندا..
عندما قدمت إلى كندا في العام 1994، لم يكن عندي تصور واضح للطقس في كندا، خاصة وإنني لم أرى الثلج من قبل لكنني كنت متحمسة ولدي فضول لخوض هذه التجربة..إحدى السيدات ممن قابلتهن عند وصولي أعطتني صورة قاتمة عن فصل الشتاء، قالت لي: "ستصابين بالاكتئاب وستنطوين على نفسك لأن الألوان ستختفي وسيغطي البياض كل شيئ".
شعرت بالقلق والخوف من كلماتها لكن جمال الخريف الكندي آنذاك خفف قلقي وقررت أن استمتع بجمال تلك اللوحة الخريفية الربانية التي لم أشاهد مثلها من قبل، خزنت عيناي كل الألوان ،وامتلأت رئتي بالهواء النقي وكأنني كنت أحضر مخزوناً من الجمال يعينني على تحمل فصل الشتاء القاسي كما صوروه لي..
جاء الشتاء واكتست الدنيا بالثلج الأبيض ولم أكتئب كما أوهمتني تلك السيدة، بل على العكس تماماً، لقد كانت تجربتي الأولى مع الشتاء الكندي رائعة بكل ما فيها من صعوبات ومفاجأت، كانت تجربة جديدة بالنسبة لي ابتداءً من اختيار الملابس والأحذية المناسبة، مروراً بالتحضيرات اللازمة للسيارة وكيفية التعامل مع الانزلاقات اثناء القيادة وكذلك اثناء المشي..أشياء كثيرة كان علي تعلمها، لكنها لم تكن صعبة.
حضرت ما يلزم من ملابس شتوية واكتشفت بأن الملابس الشتوية التي كنا نستخدمها في بلداننا العربية لا تصلح في كندا، ولهذا دائماً ما أنصح القادمين الجدد بأن لا يحضروا معهم أي ملابس شتوية لأنها لن تناسب الطقس هنا.. كل ما نحتاجه إلى معطف مناسب للطقس البارد وحذاء مقاوم للبرودة للخارج، أما الأماكن المغلقة فكلها مدفأة بالكامل لذلك نرتدي ملابسنا العادية فقط..أما في بلداننا فقد كنا نعتمد على تدفئة بيوتنا بالدفايات المتنقلة الكهربائية أو بمواقد الحطب ولأن بيوتنا من الإسمنت فقد كانت لا تحتفظ بالحرارة، هنا في كندا البيوت مصممة بحيث تكون أكثر دفئاً وتحتفظ بالحرارة وكلها تتمتع بتدفئة مركزية..أيضاً في بلداننا كانت هناك أغطية ثقيلة للشتاء وأخرى خفيفة للصيف، أما هنا في كندا فنحن نستخدم نفس الأغطية في الشتاء والصيف لأن حرارة المنزل نحن من نتحكم فيها ونقوم بضبط حرارة مناسبة طوال العام.
وبرغم قساوة ظروف الطقس والعواصف الثلجية إلا إنني لاحظت بأن الحياة في كندا لا ترتبك، كل شيئ يستمرعادياً إلا في بعض الحالات الاستثنائية كما في العواصف الثلجية أو الأمطار الجليدية، فقد يضطرون لإغلاق المدارس نظراً لصعوبة التنقل لإنعدام الرؤية أو بسبب عمليات إنزلاق السيارات ، ولذلك تعودنا كما باقي السكان هنا على الاهتمام بمعرفة حالة الطقس واتباع الإرشادات الخاصة بالسلامة التي تصلنا عبر وسائل التواصل المختلفة من هيئة البيئة الكندية.
لفصل الشتاء في كندا مكانة كبيرة في الثقافة الكندية، لذلك فهم يهتمون به ويحاولون بأن يجعلوا منه فصلاً للبهجة والنشاط، ويقومون بممارسة العديد من الرياضات الشتوية كالتزلج بأنواعه، ونرى أيضاً مهرجانات المجسمات الثلجية التي يبدع فيها النحاتون..
الجميل أن الشعب الكندي يتعامل مع صعوبات الشتاء بكل صبر وتفهم، كل منهم يقوم بواجبه على أكمل وجه ويحضرون أنفسهم لاستقبال الشتاء بما يلزم، فيقومون بعمل الصيانة الخاصة بأجهزة التدفئة في البيت، ويقومون بتبديل إطارات سيارتهم بإطارات شتوية تحد من الانزلاق وهذا إلزامي لضمانة سلامة مستخدمي الطرق..كما إنهم يقومون بتحضير أكياس الملح التي تستخدم لإذابة الثلج عند مداخل المنازل لتأمين المرور وتفادي الانزلاق، وطبعاً يحضرون الملابس الشتوية، أما محبي الرياضات الشتوية كالتزلج فلهم تحضيرات اضافية كالملابس والأدوات الخاصة بالتزلج.
وهنا وجب الإشادة بدور كل أجهزة الدولة التي تحرص على تأمين المواطنين وتسهيل تحركاتهم خلال فصل الشتاء، لهذا ترصد البلديات مبالغ كبيرة لتنظيف الشوارع الرئيسية أول بأول، ونثر مواد مانعة للانزلاق على الأرصفة في المجمعات حتى لا تتوقف حياة الناس، فهم يعملون على مدار الساعة اثناء العواصف الثلجية..
لذلك استمتعوا بالشتاء، وعيشوا التجربة بتفاؤل، مع خالص تمنياتي لكم بفصل شتاء آمن وممتع وخال من الانزلاقات..
سلوى حماد