العنصرية هي تعبير حديث ولكنها مفهوم متأصل في المجتمعات الإنسانية، نتيجة أن كل مجموعة دينية أو عرقية ترى نفسها أفضل وأعلى شأنًا ويستحقون حياة أفضل من غيرهم. والعنصرية التي نراها على المواطنين ذوي الأصول الإفريقية اليوم في الولايات المتحدة ليست المظهر الوحيد للعنصرية في التاريخ أو العالم. فهتلر كان يرى أن الشعب الألماني هو أفضل جنس بشري ويرى أن اليهود هم سبب النكسة الألمانية، بينما يرى اليهود أنهم شعب الله المختار. وظهرت مظاهر العنصرية على المسلمين والعرب في الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كما ظهرت على اليابانيين بعد أحداث بيرل هاربر. قد نحتاج لمقالات عديدة لكي نسرد فقط مظاهر العنصرية في التاريخ ولكن سنتوصل إلى حقيقة واحدة وهي أن العنصرية هي مرض فكري يصيب المجتمعات والعقول ويحتاج لتدافر الجهود الإنسانية والدولية ووضع قوانين صارمة للتخلص منه.
كندا دولة كمثيلاتها من البلدان التي لا تخلو من مظاهر التفرقة والتمييز العنصري سواء دينيًا أو عرقيًا، وخاصةً بسبب اللون! هكذا صرح رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو تعليقًا على الاحتجاجات والمظاهرات التي نشبت في مدينة مينابوليس والتي انطلقت تضامنًا مع احتجاجات الشعب الأمريكي بسبب مقتل جورج فلويد، المسكين ذي البشرة السوداء، وتضامنًا مع المرأة الكندية السمراء التي ماتت على الفور بعد سقوطها من شرفة منزلها بتورنتو، حيث زعمت الحشود بأن الشرطة كانت وراء قتلها! بينما صرحت وسائل الإعلام بأن السيدة كانت تعاني من اضطراباتٍ نفسية ونوبات صرع أودت بحياتها في نهاية الأمر.
حيث قال ترودو بأن جميع دول العالم بها تفرقة عنصرية بين السود والبيض، ولا يقتصر الأمر على كندا فقط. لكن ذلك لا يعني أنه مُوالٍ لمثل هذه التصرفات غير الآدمية، فقد استنكرها الرجل قائلًا: "ينبغي علينا أن يحترم كل منا الآخر، وأن نتصدى للعنصرية" وجاء ذلك في المؤتمر الصحفي الذي عقده يوم التاسع والعشرين من مايو 2020م. وبذلك يتضح لنا موضوعية رئيس الوزراء وتصالحه مع ذاته معترفًا بأن كندا ليست مدينة فاضلة بل هي دولة لها ما لها وعليها ما عليها كسائر الدول.
تروج كندا لنفسها على أنها ملاذ آمن لكل المهاجرين من جميع دول العالم، وبأن المجتمع الكندي مجتمع متنوع ومنفتح على جميع الثقافات والإختلافات. وبالإضافة لذلك فكندا لديها قوانين لمنع العنصرية ومنع التفرقة في العمل على أساس غير الكفاءة العملية. ولكن هل ذلك ما يجري على أرض الواقع؟
في الواقع كندا ليست دولة سيئة للغاية، فهناك العديد من الكنديين الذين لا يفكرون بطريقة عنصرية تجاه الغير، وإذا مشيت في شوارع كندا لن تتعرض لمضايقات بسبب أن عرقك أو دينك وذلك من الأشياء الإيجابية. ولكن على الوجه الأخر فإن هنالك مظاهر أخرى من مظاهر التفرقة العنصرية قد تتعرض لها في كندا داخل المؤسسات والحكومة الكندية سأسرد بعضًا منها.
إن أصعب ما قد يواجهك كمهاجر أو لاجئ بالأراضي الكندية - مهما كانت جنسيتك وجذورك هو الحصول على عمل ووظيفة جيدة في إحدى الشركات، فبين كل 10 مقابلات تجريها لقبولك في إحدى الوظائف، لن تتلقى أية ردود أو ربما تتلقى ردًا واحدًا كحدٍ أقصى، أتعرف لماذا؟ حسنًا، يكمن السبب الرئيسي في اسمك! لا تتعجب من ذلك، فكل أصحاب العمل والشركات الكبيرة بكندا لا تقبل بين طياتها موظفين من ثقافات وبلدان أخرى، فمثلًا قد لا يقبلونك لأن اسمك محمد أو أي اسم مختلف عن ثقافتهم! مما يجعل الأمر شبه مستحيل! فأقصى وظيفة قد تنالها هي أن تعمل سائقًا في شركة أوبر أو في أحد المطاعم، وإلا فعليك بتغيير اسمك في أقرب وقت كي يتم قبولك في الوظيفة التي تريدها. وبالرغم من الشعارات والادعاءات التي تسمعها طوال الوقت، فهناك لا تهم مؤهلاتك، قدراتك أو مهاراتك، بل كل ما يهم هو عرقك وأصولك، وقبلهم اسمك!
وتم إثبات ذلك في دراسة أجراها البروفيسور فيليب أوريبولوس والبروفيسورا ديانا ديتشيف أثناء فترة زمالتهم بجامعة تورنتو عام 2009م، حيث تم تقديم أكثر من 7000 سيرة ذاتية لأشخاص آسيويين أي من الصين وباكساتن والهند...إلخ من أجل أن ينالوا نصيبهم من التعيين بالوظائف الشاغرة في أكبر 3 مدن كندية وهي تورنتو ومونتريال وفانكوفر، ليتم رفض معظمها للسبب الذي تعرفه! لكن تحججت الشركات بأن جميع المتقدمين لم يكونوا على دراية كاملة باللغة الانجليزية ولا يجيدونها، وأنهم لا يتمتعوا بالمهارات والمؤهلات المطلوبة، أو أنهم لم يحصلوا على التعليم الذي يؤهلهم لشغل مثل هذه الوظائف، بعكس ما جاء في سيرهم الذاتية! والمفاجأة هي أنه بعدما أُعيد تقديم نفس السير الذاتية لنفس الأشخاص ولكن بعد تغيير أسمائهم الغريبة، ارتفعت نسبة اتصال الشركات بالمتقدمين بل وقبولهم بنحو 35% عن المحاولة الأولى!
مما اضطر فيليب وديانا إلى تقديم تقرير بعدد 53 صفحة عام 2012م تحت عنوان:
Why Do Some Employers Prefer to Interview Mathew but Not Samir?
وجاءت النتائج كالتالي:
تكون فرص أصحاب الأسماء الآسيوية في إجراء مقابلات التوظيف أقل بنسبة 32% من الكنديين حتى إذا كان تعليمهم ومؤهلاتهم من كندا.
بينما تكون فرصهم أقل بنسبة 45% إلى 60% من أصحاب الأسماء الكندية في حالة حصولهم على مؤهلاتهم وتعليمهم من خارج كندا.
يتم التفريق والتمييز ضد حملة الأسماء الآسيوية في المؤسسات الصغيرة ضعف ما يتم داخل المؤسسات والشركات الكبيرة التي تضم أكثر من 500 موظف.
تزيد فرص الآسيويين في الحصول على وظيفة في أيةٍ من الشركات الكبرى إذا كانوا حاصلين على ماجستير من إحدى الجامعات الكندية، بالمساواة مع الكنديين أصحاب البكالريوس!
وفي المنظمات والشركات الصغيرة - حتى في حالة حصولهم على ماجستير من الجامعات الكندية تقل فرصهم بنسبة 30% مقابل الكنديين الحاصلين على البكالريوس.
عدم المساواة وغياب العدالة في توزيع الدخل والثروة، وذلك وفقًا للبحث الصادر بواسطة المركز الكندي للسياسات البديلة، حيث يؤكد التقرير على أن سوق العمل هو العامل الرئيسي الذي يتحكم في المستوى الاقتصادي للشعوب عامةً، ولسكان كندا خاصةً، ويسلط الضوء على تفريق السياسات الكندية بين المواطنين في العمل والرواتب والثروة، حيث يتم التمييز بين الموظفين سواء بسبب الاسم، اللون، أو حتى العرق كما يظهر واضحًا في عدم المساواة بين الرجل والمرأة في الدخل.
فمثلًا، تحصل المرأة التي تتعرض للعنصرية على 59 سنتًا مقابل حصول الرجل الذي لا يتعرض للتفرقة على دولار كامل، وكذلك يحصل الرجل الأسمر الذي يتعرض للتفرقة العنصرية على 78 سنتًا مقابل كل دولار يكسبه أحد الرجال البيض ممن لا يتعرضون لأي نوعٍ من التمييز.
عدم دمج المهاجرين بصورة كافية في سوق العمل، وغالبًا ما تُعلن الحكومة الكندية استقطابها مزيدًا من المهاجرين واللاجئين سنويًا ، لكن الحقيقة أن الدولة تستفيد منهم ومن أموالهم اقتصاديًا بصورة كبيرة! حيث تطلب وزارة الهجرة عبر موقعها الرسمي أشخاصًا أصحاب مؤهلاتٍ ومهارات كبيرة وفي الواقع لا يستطيعون الحصول على وظيفة تليق بهم داخل البلاد، بل لا يكون أمامهم سوى العمل في الحرف المختلفة كالسباكة، والحدادة وغيرها..وذلك بالضبط ما يتضح في الدراسات التي تجريها الوزارة نفسها، حيث تقول بأن المهاجرين واللاجئين يقضون حوالي من 5 إلى 10 سنوات بحثًا عن العمل، حتى لو كانوا من خريجي الجامعات، وأن ربع هؤلاء فقط من يستطيعون الحصول على وظيفة مرموقة تتماشى مع مؤهلاتهم وخبراتهم، لذلك تُقدم الحكومة قروضًا للمهاجرين كي يتمكنوا من مجاراة تكاليف الحياة والمعيشة، على أن يتم سدادها على فترات وبفوائد بسيطة. حسنًا..أنت الآن قد علمت كيف تستفيد الحكومة الكندية من المهاجرين على الصعيد الاقتصادي!
كل ذلك يحدث على الرغم من قانون حقوق الإنسان الكندي الذي ينص على المساواة بين جميع السكان في الفرص والحقوق، دون التمييز بينهم في العمل والسكن والعقود والوظائف والحصول على الخدمات والعضوية النقابات...إلى آخره. كذلك يجب أن يُعامل كل فرد وفقًا للقانون ذاته بطريقة تحفظ كرامته وقيمته كإنسان، وألا يتعرض للعنصرية على أساس الدين، اللون، الجنس أو حتى النسب، وهو ما يتنافى جُملةً وتفصيلًا مع ما يحدث على أرض الواقع!
كل تلك القوانين هي خطوة إيجابية من الدولة تجاه العنصرية، نتمنى أن تتبعها خطوات أخرى تحد من مظاهر التفرقة العنصرية، حتى تصبح كندا نموذجًا لباقي الدول التي تنتشر بها التفرقة العنصرية. في النهاية كلنا بشر من أصل واحد مهما اختلفت أعراقنا، أصولنا، دياناتنا أو ثقافاتنا وهذه هي الحقيقة التي يجب على الجميع استيعابها.
بقلم : توفيق السعدو