الأمثال هي خلاصة تجارب ممن سبقونا تركوها لنا على هيئة جمل قصيرة لكنها تحمل الكثير من الحكمة ومنها نتعلم لذا يمكننا أن نعتبرها منهج حياة أجيال سبقتنا ويمكننا البناء عليها وتطويرها بما يتناسب مع عصرنا.
هناك مثل يقول" إن كبر ابنك خاويه" وهو مثل يلخص إسلوب حضاري في التعامل مع أبنائنا، ومعنى المثل أن على الأباء أن يتعاملوا مع أبنائهم عندما يكبروا بإسلوب يتناسب مع تطورهم العقلي والجسماني، عليهم أن يحترموا هذا التغيير ويتعاملوا معهم على أنهم شخصيات ناضجة فيصبح النقاش بينهم إسلوب حياة..
كل منا مر بتجربة التحولات العمرية مع أبنائه خاصة النقلة من مرحلة الطفولة لمرحلة المراهقة، هناك من يتجاوز هذه المرحلة بهدوء وهناك من يجتاز هذه المرحلة ببعض المشاكل بسبب صراع الأبناء مع الأباء بسبب غياب التفاهم..
لو فكرنا في هذا المثل الذي يوجه الأهالي لأن يتغيروا وليس الأبناء، سنجد بأن هذا تغيير منطقي فمن الصعب أن نطلب من ابنائنا الذين يبدأون رحلتهم المعرفية في الحياة أن يعودوا للوراء ويتصرفوا مثل ما كنا نتصرف في ظل هذه التغيرات المتسارعة، الأصح هو أن نتغير نحن كأباء وأمهات ونحاول أن نستوعب هذه المتغيرات بما لنا من تجارب تجعلنا قادرين على دوزنة الأمور وهنا يحضرني مثل فلسطيني يقول" الماعون الكبير يسع الماعون الصغير" أي أن الكبر لهم قدرة على استيعاب الصغار.
الكثير من الأباء ممن يعيشون بعقلية أن الكبير له هيبته ولا يجوز أن يتبسط حتى مع أبنائه..هؤلاء يرفضون فكرة الجلوس مع أبنائهم والتحدث معهم بانفتاح كأصدقاء ظناً منهم بأن هذا سيقلل من هيبتهم ومكانتهم ويضعون حواجز بينهم وبين أبنائهم فيصبح التعامل في إطار رسمي جداً..
أؤمن بأن الخوف حباً أهم بكثير من الخوف كرهاً..كلاهما خوف لكن المضمون مختلف تماماً..عندما يخاف الأبناء من فعل خطأ ما خوفاً وحرصاً على محبة أهلهم أهم بكثير من خوف الأبناء من فعل خطأ خوفاً من رد فعل أهلهم وعقابهم..علينا أن نغرس في أبنائنا الثقة بالنفس، والثقة في الأسرة حتى نسير جنباً إلى جنب معهم في رحلة الحياة ونساعدهم بما نملك من خبرات لتجاوز أي عثرات قد تواجههم.
المشكلة أن معظم الأباء يظل أبنائهم في نظرهم صغار وإن كبروا، فيتخذون القرارات نيابة عنهم خوفاً على مصلحتهم من وجهة نظرهم، فيتدخلون في اختيارات تخصصاتهم العلمية، وأحياناً يصل الأمر حتى في اختيار شركاء حياتهم، هنا يتحول الحرص إلى سيطرة ووصاية على الأبناء والنتيجة إلغاء تام لاستقلالية قراراتهم وإضعاف لشخصيتهم وزيادة مشاكلهم.
كلنا كأهالي نريد أن نطعم أبنائنا خبراتنا التي كسبناها من الحياة بالملعقة كما كنا نطعمهم وهم صغار ظناً منا بأننا نوفر عليهم المصاعب والتجارب الفاشلة، لكن هذا غير صحيح لأن الخبرة الصحيحة هي التي تأتي بالتجربة والفشل ومعاودة المحاولة مرات ومرات..
نحن في المهجر أحوج ما نكون للانفتاح في إسلوب تربيتنا لأبنائنا، نتناقش معهم، نعطيهم المساحة الكافية ليعبروا عن أنفسهم، نجيب على أسئلتهم دون حرج لأن كم المتناقضات كبير ما بين المجتمع الذي جئنا منه والمجتمع الجديد، علين أن نحترم عقلياتهم في ظل انفتاح كبير على المعلومات التي يمكن الحصول عليها بكبسة زر وهم في أي مكان..
علينا أن نعطيهم الإحساس بالأمان كي يثقوا بنا ويخبرونا بما يتعرضون له خارج المنزل، فمهما حاول الأباء فرض وصايتهم على أبنائهم لن يستطيعوا أن يكونوا معهم طوال الوقت، فهناك وقت داخل الفصول الدراسية وآخر في ساحة المدرسة وفي وسائل المواصلات ، لذلك هم من سيخبروننا بما يحصل معهم لو شعروا بأننا متعاطفون معهم ونهتم بكل تفاصيلهم..محاولة توريث ابنائنا العادات التي تربينا عليها دون توضيح ستخلق كم من التساؤلات عند الأبناء ويجب على الأباء أن يقدموا التوضيحات، التصادم بين الأبناء والأباء يأتي نتيجة لتشبث الأباء بأرائهم ورفضهم لتقديم أي تفسيرات.
بإعطاء الأبناء الاستقلالية في اتخاذ قراراتهم فنحن نحملهم أولى مسؤولياتهم في الحياة وما أقصده بالاستقلالية هنا هي حرية الاختيار وحرية التعبير مع الحفاظ على الثوابت الدينية والأخلاقية ، وعلينا أن نكون على استعداد دائم للرد على تساؤلاتهم دون ثورة أو تحقير، سنواجه كم من المقارنات ما بين البيت وخارجه، ودورنا أن نوضح لهم أسباب الاختلاف بطريقة مقنعة ومقبولة..
يتسائل البعض هل يكون التعامل مع الأبناء الذكورنفس التعامل مع الإناث طبقاً لهذا المثل؟
بالتأكيد لا فرق مع بعض المحاذير، فالبنت تلجأ لوالدتها في أمور خاصة لا تستطيع أن تناقشها في وجود والدها أو إخوتها الذكور، لذلك هناك مسؤولية على الأمهات تجاه بناتهن وأن يتعاملن معهن بانفتاح وأن تكون طبيعة العلاقة صداقة أكثر منها علاقة أم وإبنة..البنت في البيت هي صمام أمان لو أعطيت الثقة من والديها ، فهي قادرة على أن تكسب ثقة أخوتها الذكور أكثر من الأهل وبالتالي ستكون همزة الوصل بين أخوتها ووالديها.
في بعض المجتمعات الذكورية تٌلغى شخصية الإبنة ويصبح مصيرها في يد والدها وأخوتها الذكور، وإن حاولت أن تشارك برأيها في أي حوار يبادرون بتسفيه رأيها أو إسكاتها وقد يؤدي هذا إلى تمردها في أقرب فرصة وخروجها عن طوع العائلة وهناك العديد من القصص التي كنت شاهداً عليها في هذا السياق..
عندما تناقشت أنا وصديقة لي في هذا الموضوع قالت لي وهل نترك لأبنائنا الحبل على الغارب (أي نترك لهم التصرف على هواهم دون حسيب أو رقيب؟)
قلت لها: وكيف ستراقبينهم خارج البيت، كيف ستراقبينهم وهم على هواتفهم المحمولة التي تنقل لهم كل المعلومات بكبسة زر..لذلك وجب علينا أن نغرس فيهم سلوك مراقبة الذات وأن نفعّل ضميرهم ليكون رقيباً عليهم..
لم يعد المثل القائل " العصا لمن عصى" فاعلاً في وقتنا هذا، لنترك أبنائنا يختارون أصدقائهم بأنفسهم ولنحاول أن نقترب نحن أيضاً من أصدقائهم ولكن دون فرض أنفسنا بطريقة فجة وبذلك نستطيع أن نعرف دائرة معارفهم..لنتركهم يخطئوا ويتعلموا من أخطائهم..
علينا أن نواكب مراحل تطورهم العمري لأن التعامل مع الأطفال غير المراهقين غير الشباب..المراهق أحياناً يلجأ للعناد من أجل إثبات وجوده وإحساسه بأنه قد كبر، في هذه الحالة المطلوب من الأهل تجنب المواجهة حتى لا يحصل تصادم قد يؤدي الى مالاتحمد عقباه.
لا ننسى دور الأصدقاء وزملاء الدراسة وتأثيره على شخصية الأبناء في فترة المراهقة والشباب، أحياناً يكون أكثر تأثيراً عليهم من دور الأباء لأنهم ببساطة يقضون معهم الوقت الأطول خاصة وأن الأباء أحياناً وبحكم أنشغالهم لا يجلسون مع أبنائهم الوقت الكافي..لذلك على الأباء اختيار وقت تجتمع فيه الأسرة كل يوم وليكن على العشاء أو بعده للجلوس مع ابنائهم ومشاركتهم الحديث عن أي موضوع، وليكن هذا روتين يومي يحرص الجميع على تطبيقه، هذا يخلق حالة من التوازن لدى الأبناء، ومن خلال هذا اللقاء اليومي يمكن للأباء توصيل رسائل توجيهية لإبنائهم.
الرقابة الشديدة على الأبناء تهز ثقتهم بأنفسهم بسبب الخوف فيلجؤون للكذب والتحايل على الأهل حتى يفلتوا من العقاب وفي غياب الأهل يفعلون ما يحلو لهم لغياب مصدر خوفهم وهذا قد يوقعهم في مشاكل لا حصر لها..
ربما يتساءل البعض، كيف لنا كأباء أن نفتح حواراً مع أبنائنا وبيننا فروقات عمرية وثقافية وخبرة طويلة؟
من أهم ركائز نجاح الحوار مع الأبناء هو التحلي بثقافة الإنصات..نستمع لهم بكل جوارحنا، نسمح لهم بالاسترسال بأفكارهم لنتعرف على طريقة تفكيرهم، نتوقف عن لغة النهي والأمر التي تغلق كل أبواب الحوار، بمعنى أن يلجأ الأهل إلى الحوار الأفقي الذي يضع الأبناء في نفس المستوى ويذيب أي حواجز نفسية ويشعرهم باحترام شخصياتهم ويساعد في إنضاج قدراتهم التحاورية ، علينا أن نطرح عليهم الأسئلة وننتظر اجاباتهم ونناقشهم فيها كما نستمع لأسئلتهم..حتى لو أخطأ الأبناء لنحاول أن نصل معهم لأسباب الخطأ وإيجاد حلولاً بدلاً للانقضاض عليهم باللوم والإهانات والتفكير فقط بالعقاب..
أبنائنا امتداداً لنا وليس نسخاً مستنسخة عنا، صحيح نحن نحاول أن نراهم يحققون أحلامنا التي لم تتحقق لكن هذا فيه ظلم لهم لأن لكل منا الحق في أن يصيغ أحلامه على مقاسه، لماذا نورثهم أحلاماً خاصة بنا؟ّ!!!!
وأكرر هنا، الثقة هي أقصر طريق لكسب الأبناء، لنمنحهم الثقة مع هامش من الحرية ولنتوقف عن إصدار الأومر التي لا نقاش فيها، لأن الحب والثقة هما طوق النجاة لأبنائنا عندما تجرفهم مغريات العصر، لا تتخذوا قرارات نيابة عنهم وتشعروهم بضعفهم وعدم قدرتهم على اتخاذ القرار، كونوا لهم صمام الأمان الذي يقلل من أخطائهم ولا تكونوا أصفاداً تقيد تطورهم العقلي والإبداعي ، كونوا أصدقاءً لهم حتى تكونوا الملاذ الأول لهم عندما تصدمهم الحياة بقسوتها....
احرصوا على إشباع الجانب العاطفي لأنه أهم بكثير من إشباع الجانب المادي، فالاقتراب من الأبناء في جلسة حميمية دافئة كفيلة بأن تجعلهم في قمة السعادة والأمان والانفتاح مع الأهل..
حفظ الله أبنائنا وسدد خطاهم..
سلوى حماد