في كلِّ يومٍ يستيقظ طفلٌ جائعٌ فلا يجد طعامًا فيه ولا حياةً تُسدِل عليه من عطاياها، فيعتصِرُ ألمَ الجوع ويَرْبِط على بطنِهِ وِثاقًا ويَشُدُّه حتّى لا يشعر، وفي كلِّ يومٍ يستيقظ الأب فيه يبحث عن طعام لطفله الّذي أهلكه اعتصار الجوع والألم- إن لم يكونوا أطفالًا- في كلّ يوم يستيقظ أحدهم ميتًا؛ فقد أهلكته نزاعات الحياة وصراعاتها... في كلّ يومٍ تتجلّى المصائب والكوارث في زقاقه حيثُ لا أحدَ يسمع صيحاتهم واستغاثاتهم ولا صراخَهُم الّذي يعادل ضِحكةً واحدةً لميسور الحال.
نعم، إنّهم موجودون حقًّا في هذا العالم، الّذي يَرْبِطُ على بطنه عِصبةً تحميه من مكابدة آلام الجوع، والّذي يفيق مع العصافير يبحث عن ديدانٍ يطعمُها أهلَهُ، والّتي تمسح دموعًا من وجوه الّذل الّتي اعتلت قامتَها، والّتي تَهْتِفُ: لا ماءَ وتشتكي قلّة الفأر في بيتها... نعم، إنّهم موجودون!
كان هذا لمّا كانت تخرج امرأةٌ أرملة، ولها من الأطفال اثنان، لا عائلَ لهم إلّا هي، فتخرج صَبيحةَ كلّ يومٍ مع غُدوِّ المصلِّين من صلاة الفجر ومعها كيسٌ تُخفي في طياته ما تتقايضه مع (الحاوية) بريبٍ وخوف، فكلّما أطلّت فلم تجدْأحدًا تُكمِل سيرتها الأولى.
حدث هذا بُعيْدَ أنْ كانت مُدلّلةً مع زوجها، تلْبَسُ الحُلِّيَّ، وتضحك فلا تصارع في كلّ ابتسامة مشاحناتِ الفِكر والحياة، حدث هذا لمّا كانت تنتظر نَظِرةً إلى ميسرة، نَظِرَة ميسور يخلع عنها تلك الحُلّةَ الّتي لا تستطيع مجاراتَها -الفقر والمسؤولية- حدث هذا أن جاء شهر رمضانَ فلم تجدها تملك ما يكفي أولادَها طيلةَ الشهر من الطّعام كأقلّ حقّ يُشارُ به في دهاليز الحياة ومعطياتها، حدث هذا كلّه لمّا رأيتُني في ليلةٍ رمضانيّة أُقلّب صفحاتِ سَريرتي أمام الله وأطرح منها ما لا حاجة لي به، فأفوض أمري لله... كانت تسير وعليها ملابس الصّلاة القديمة، الموشّاة بشيء من الخرق ولا تُظْهِر منه إلّا وجهًا نافرًا قابلًا للعراك، يتجملُ بالبصمات العاتية من الفقر والقهر، وتحمل بيديها أكياسًا فيها البضاعة الّتي كانت قد ساومت (الحاوية) عليها من قبل، وتسير مسرعة خطواتها الّتي لا تسمح لأيّ أحدٍ تأمُلَ نوعِها.
فلمّا اقتربَت منها، تأكدتْ خُلُوَّها من الزّبائن وممّن حولها يحيط من النّاظرين، خافت هوان نفسِها وذلّها أمام بشرٍ لا ترحم، ذهبت تُنَقِّب لأطفالها عمّا يساندهم، وينقذهم صعوبة الحياة، ولم يحدث أن رأيتها إلّا في هذا الشهر الّذي تتبدّى فيه ملامح الرّوحانيّات؛ حتى تذهبَ إلى ما يُكملُ هذه الرّوحانيات فتّتجه إلى الدّعاء والصّلاة والتّضرّع إلى الله، فهو شهرٌ يذكِّرك بالجائع الملهوف المعدم ويُريكَ من العجائب ما يختفي عنك ولا تصدّقه عينك.
حدث هذا لمّا جاء كبير سنٍ ذو لهجة عربية غيرِ أصيلة إلى عمله، فعمله قريب من نافذتي فقد كان يمسح السياراتِ صبيحةَ كلِّ يومٍ؛ كي يتجنّب هجيرَ الصّبح وحرَّه... ويتحدث مع صديقه: (ها يَلَا أَصْلِي مَتسحرتش اللّيلة، كُت عاوز أوفر الأكْل للفِطار).
هذه الأحداث المكرورة دومًا في كل بلد ومدينة وقرية وزاويةٍ وشارع، إنّها موجودة لكنّ هل موجود من يكبّر الصّورة ويوضّح الرّؤية؟
تمّت
بقلم/// ملك محمد أبو طوق