آخر الأخبار

لا تفرحوا كثيراً ... فما طار طير وإرتفع إلا كما طار وقع!..

 من الطبيعي أن يكون هناك متغيرات في الحياة الإنسانية وتنقل بين مراحلها، ومن الغباء عدم فهم حيثيات التوارث الحياتي بين أجيالها.
لذلك نرى الشخص الذي يأخذه غروره وعزته الباطلة بنفسه الى درجة الكبرياء المدمر أنه يشبه بذلك الطير الذي يطير ويسمو وهو يبطش غير آبهاً بما يدور حوله، لكنه غالباً بعد طيره عالياً وإطمئنانه وفرد أجنحته وعلوه حتى يظن أنه يستطيع أن يستبيح كل  شئ على حساب كل شئ ، وفجأة وبدون مقدمات يقع ويسقط للهاوية، فكما يحدث ان يكون الانسان في قمة قوته حتماً سيأتي يوماً ليصبح في أضعف حالاته، وهنا تكون المفارقات بين العزيز الذي تعزه الحياة في كِبره وتعطيه القوة بالرغم من كل التحديات وكل العراقيل وبين الذليل الذي تذله الحياة في أرذل عمره بالرغم من كل الإمكانيات المتوفرة لديه.
إذاً ليس غريباً أن نرى حكمة بالغة التعبير ومثيرة المعنى،  ففي شطرة شعرية عظيمة للإمام الشافعي دلالات كبيرة جاء فيها "حسبي بعلمي إن نفع، ما الذل إلا في الطمع، من راقب الله رجع، عن سوء ما كان صنع، ما طار طير وارتفع، إلا كما طار وقع".
هذه الشطرة الشعرية زلزلت قلمي في ظل هذه التحديات والظروف بالغة التعقيد التي نواجهها في حياتنا والتي لا نُحسد عليها ، والتي تجعلنا نميل إلى تصديق إنتصار الباطل على الحق وهذا هو المستحيل في واقع الأمر حتى لو كان ذلك أمر بين لأنه حتماً سيكون مؤقتاً.
هذا  دفعني لكي أجعل فكري ينتفض في كل الإتجاهات ليسطر حالة من التمرد الكتابية غير المسبوقة، كيف لا ونحن نعيش فجوراً في التباهي الوقتي لإنتصار العربدة السلوكية في ظل غموض شرير، وكأننا في فيلم سينمائي يشرح فيه ظنونٍ غير مرئية وغير مسموعة وغير ملموسة حتى يصبح المشاهد تائهاً ومتشوقاً لأحداثٍ يرتفع ويسمو فيها نجوم الفيلم ليتم غزو الفكر، ومن ثم يتم خلخلة الثقة بالنفس بين اليقين والشك بأن نهاية الشر ستكون دائماً  الهزيمة والإنكسار وعدم الإنتصار، وغالباً ما تكون دخولاً من بوابة الجحيم الأبدية التي لا تحمل إلا الخزي والعار فلا عودة منها ولا فيها،  وأن خاتمة الحق دائماً تحقق الرفعة والقوة والشموخ ورسم النهاية المشرفة بقدر الصبر والتضحيات.
هنا يأتي الحديث عن كيف يفرح الشرير في بداية الأمر وهو يتراقص بتحقيق النصر وكأنه حقق فتحاً مبيناً وهو لا يدرك بأن هناك كرامة مفقودة وبأن النصر غير المقترن بالكرامة وبالخاتمة الكريمة يكون إنهزاماً وهزيمة.
حينها تتضح الصورة وتبدأ الحكاية ليدرك المجرم بأنه بعد السكرة تأتي الفكرة وبأن هناك حسابات لا تخضع لفترات زمنية بل تكون حساباتها مقترنة بظروفٍ وحكمة أبدية، لذلك من غباء هؤلاء الأشرار أن يظنوا أنهم صعدوا عنان السماء لأنها حتماً لا تقبل بالأوغاد وهي دائماً صاحبة القرار وهي من تملك مفتاح النجاح فتعطي من يستحق الحق بأن يحلق عالياً ويفرد جناحيه وهو واثق بأن الطريق سلسة وليس هناك من مطبات تعيق حالة الطيران ولربما يكون هناك القرار والمفاجأة التي لا تخطر على بال لتسجل واقعاً يرسخ عنوان هذه الحياة وهي أن حالة الزهو الباطلة لابد أن تكون خاتمتها سقوطاً وإذلالاً مريعاً. 
إن دوام الحال من المحال، هذا المثل الشهير الذي كان ومازال الناس يرددونه  فيه حكمة بالغة نعيشها كل يوم، وهو قول مأثور، ينطبق على كل ذي منصب مرموق وكل صاحب مال وعز، من الذين يجب عليهم أن يحافظوا على هذه المكانة بالتواضع، ومساعدة الناس، وعدم التكبر على مَن هو دونهم، وأن يقبلوا بالنصيحة، وأن يحترموا المكانة التي وصلوا إليها.. ويعلموا يقيناً أنها "لو دامت لغيرهم ما وصلت إليهم وأن غدر الأيام لا حسابات تمنعه"، ولذلك يجب ألا يغتر هذا وذاك ممن يملأ قلوبهم الحقد والحسد والشماتة والكراهية،  بما هم  فيه من جاه، ومال، ومنصب أو وجاهة قد تكون بنيت بالباطل؛ لأنها قد تذهب مع أدراج الرياح فجأة وبدون مقدمات.
وفي زمننا المعاصر نسمع حكايات كثيرة منها ما يستوعبه العقل، ومنها ما هو فوق القدرات الطبيعية لفهم الحال وهنا يكون الحكم درجات الإيمان، حيث سجَّل التاريخ قصة أحد الأثرياء الأمريكيين، عندما كان صبيًّا في السادسة من عمره أخذته أمه معها إلى أحد متاجر الحلوى، وطلب الصبي من أمه قليلاً من الفستق، فقال له صاحب المتجر: "خذ ما تشاء، هيا املأ يدك من الصندوق".
 فرفض الصبي رفضًا باتًّا رغم إلحاح الرجل، وإلحاح أمه عليه، فلم يسع الرجل إلا أن يملأ يده من الفستق ويضعه في جيب الصبي، وبعدما خرج سألته أمه: «لماذا لم تأخذ بنفسك؟!»، فقال لها: «لأن يد البائع أكبر من يدي، لهذا سوف يكون الفستق أكثر». 
وهنا إتضح أن ذكائه الفطري هذا هو الذي أهَّله فيما بعد لأن يصبح مليونيرًا ، ولكنه - مع الأسف - استغل ذكاءه وفطرته في الطمع بما لدى غيره، ومرت الأعوام، وكبر الطفل، وأصبح بالفعل من أصحاب الملايين، يُشار له بالبنان من ضخامة الصفقات التجارية المشروعة وغير المشروعة التي يحصل عليها وتزيد من ثروته. 
ولكن في النهاية (ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع)، وخصوصًا إذا كان ذلك الطيران مشبوهًا، ويعتمد على أن (الغاية تبرر الوسيلة)، مهما كانت تلك الوسيلة.
 وغاص الرجل الجشع إلى أخمص قدميه من شدة الطمع، وتكالبت الدنيا عليه، إلى أن أصبح ملاحَقًا من البنوك، مفلساً ، وممنوعاً من السفر بعد أصبح ملاحَقًا من كل الجهات أيضاً.
هذه قصة لوجه واحد من أوجه الطيران على حساب الآخرين، ولكن أيضاً رأينا رؤساء دول لم ينفعها المال ولا المنصب ولا الجاه، بل كانت النهاية مذلة ومهينة وقاسية أخذت معها في لحظات لم تكن في الحسبان كل ما بنوه في عقود لا بل كل ما تفاخروا به وبطشوا وفعلوا كل ما يريدون ولكن كانت النهاية أيضاً "ما طار طير وإرتفع إلا كما طار وقع".
هناك العديد من الحكايات كانت نهاياتها في نفس السياق، ولمن لم تعلمه الأيام من نهايات مثل هذه الحكايات ، نختم له بهذه الحكاية ، وهي حكاية شاب فاشل ومجرم ونرجسي وضيع، ووالد مريض وغير سوي، يفتح بيته لإستباحة كل القيم ظناً منه أنه يرسم الطريق لإرضاء ذاته، ومحاولة للحفاظ على إبنه المريض ، وهم يعتاشون على الحرام ، وفوضى فكرية وسلوكية لبيئة أسرية متخلفة وغير سوية، وتعيش تناقضات حياتية غير عادية وغير أخلاقية ، يعتاشون كالجيف كجثث هامدة،  تعصف بمشاعرهم الإنسانية لتخط بداية نهاية مدمرة  لحياة مقامرة ، ومع ذلك يكتسحون كل شئ ويبطشون بكل شئ ويضربون عرض الحائط بكل شئ، ويتناسون بأن هناك قدر يرسم خارطة طريق لكل شئ ، ومن يرسم بداية خاطئة ليرتفع ويطير على حساب أحلام وإستقرار وآلام وأوجاع الآخرين لابد أن يأتي يوماً ليهبط ويقع ويسقط سقوطاً مدوياً ليرسم نهاية لحكاية باطلة بدأت فصولها رخيصة وكاذبة ومضللة!.
لذلك ايها الأشرار لا تفرحوا كثيراً .... فما طار طير وإرتفع إلا كما طار وقع والأيام كفيلة برسم النهاية التي تليق بالمجرمين أمثالكم!..