يحلم كل الأباء برؤية أبنائهم ينعمون بكل مباهج الحياة ويحصلون على تعليم جيد يؤهلهم للحصول على منصب مرموق، ويكون لديهم أسرة وأبناء، لكن ليس كل الأحلام تصبح حقيقة، فالأجيال تتغير وتفكير الأبناء يختلف عن تفكير أبائهم، فهم يصيغون أولوياتهم حسب رؤيتهم، وحسب المستجدات.
في جلسة مع مجموعة من الصديقات تطرقنا إلى موضوع زواج الأبناء، وبدأت كل سيدة في سرد قصتها مع أبنائها فيما يتعلق بموضوع الزواج..وخرجنا بمجموعة من الأسباب ، كان أهمها أن أولويات الأبناء تأمين المستقبل أولاً والذي قد يتطلب وقتاً طويلاً، فرحلة النجاح لا تتم في ليلة وضحاها..أيضاً خوف الشباب من تحمل مسؤولية أسرة ..هذا الأمر ينطبق على كل من الشباب والفتيات، فلقد أصبح الطموح المهني هو الأولوية لكلاهما، الفتاة اليوم أصبحت أكثر حرصاً على إكمال تعليمها والحصول على أعلى الشهادات وأصبحت تنافس الشباب في الوظائف لأنها تريد أن تؤمن نفسها مادياً قبل الارتباط بشريك حياتها حتى تشعر بالاستقلالية أكثر.
في ظل ظروف حياة صعبة تتطلب عمل كل من الزوج والزوجة لتوفير دخل كاف لإنشاء أسرة في مستوى مادي جيد، أصبح الشاب يبحث عن شريكة حياة متعلمة وعاملة حتى تساعده على تحمل أعباء الحياة، لكن في المقابل بتنا نجد بنات في أعمار متقدمة وغير متزوجات لأنهن اخترن العمل وتطوير أنفسهن مهنياً على الزواج، وبمرور الوقت يعلو سقف الشروط في شريك الحياة ويتأخر مشروع الزواج.
حقيقة هذا الموضوع لا يؤرق الأهالي في المهجر فقط، بل حتى في بلداننا العربية أصبح الأهل يعانون نفس المشاكل مع أبنائهم، واكتشفت بأن العامل المادي ليس العائق الأول كما كنت أظن.
سألت أحدى الصبايا من دائرة معارفي: لماذا ترفضين كل الخطاب وتضعين والديك في حيرة؟
قالت لي : ماذا سيضيف لي الزواج؟!، لدي عمل محترم ويدر علي دخلاً جيداً، عندي سيارتي ولدي مبلغاً محترماً في البنك وأفكر في استثماره في شقة خاصة بي، أسافر دون قيود ولدي الكثير من الأحلام لن تتحقق فيما لو تزوجت وأصبحت مسؤولة عن أسرة..الزواج سيعرقل مسيرتي المهنية التي تعبت عليها كثيراً.
فتاة أخرى كل حلمها العثور على رجل ثري تحقق معه أحلامها الوردية لأنها تظن أن الزواج هو مجرد نزهة ، معظم البنات للأسف ليس لديهن فهم حقيقي لماهية الزواج والغرض منه..
وأخرى أدهشتني بجرأتها عندما قالت لي: لن أخوض مغامرة العيش مع شخص تحت سقف واحد دون التعرف عليه جيداً قبل عمل أي عقد شرعي، سألتها بسذاجة وكيف ستتعرفين وما هي المدة برأيك اللازمة للتعرف على شخص ما؟ أجابتني بمنتهى الثقة والبرود : يجب أن نجرب الحياة معاً ونعيش معاً واذا شعرنا بأننا متفقين نفكر بالزواج ، هذا النموذج للأسف من بلد عربي وليس في المهجر، وسمعت الكثير عن زواج بين الشباب والشابات يقيمون علاقات كاملة تحت بند الزواج العرفي الذي بات منتشراً بين طلبة الجامعات في الدول العربية ونتج عنه العديد من المشاكل المعقدة التي ساهمت في إلغاء فكرة الزواج المستقر والاستعاضة عنه بزواج مؤقت يشبه الوجبات السريعة.
ولو سألنا الشباب عن سبب عزوفهم عن الزواج سيكرر معظمهم هذه الجمل " لا وقت لدي لهذا المشروع، عملي يأخذ كل وقتي" .." لم أجد شريكة الحياة المناسبة حتى الأن".."لن أضحي بحريتي من أجل زواج يضع علي قيود"
أحد الشباب قال لي: وماذا ينقصني حتى أتزوج، أعيش حياتي على أحسن ما يرام، لدي عمل جيد، أسافر واستمتع بحياتي، أصدقائي المتزوجين تعساء ومهمومين وقد تراكمت عليهم المسؤوليات ولم يعودوا حتى يمارسون هواياتهم..ألم تسمعي بحالات الطلاق الكثيرة هذه الأيام؟
لا شك بأن ارتفاع معدل الطلاق بين الأزواج من فئة الشباب قد خلقت حالة من الإحباط لدى بقية الشباب وأفقدتهم الثقة في فكرة الزواج، وجعلتهم يفضلون حياة العزوبية على الدخول في تجربة قد تنتهي بالطلاق.
في المهجر، معظم الشباب والشابات يرفضون الزواج المرتب من قبل الأهل على الطريقة التقليدية ويفضلون أن ينتقوا شركائهم في الحياة بأنفسهم، وهناك من تأثر بالجو العام واستعاض عن الزواج بإقامة علاقات خارج إطار الزوجية، وهناك بعض الأهالي استطاعوا إقناع أبنائهم بالزواج في سن مبكرة فور تخرجهم من الجامعة قبل أن يتشكل وعيهم وتنضج نظرتهم للحياة ويصبح التأثير عليهم غير ممكناً، وبعض الأهالي رضخوا لخيارات أبنائهم حتى لو لم تكن الخيارات مناسبة من وجهة نظرهم.
بعض الشباب ممن يعيشون في المهجر اقتنعوا بفكرة الزواج من نفس الوسط الاجتماعي الذي يعيشون فيه بناءً على ترشيحات الأهل لكنهم اصطدموا بعادات وتقاليد معينة لم يقتنعوا بها وبدأوا حياتهم بصراع ما بين العادات والتقاليد وقناعاتهم الشخصية..
في المهجر بلا شك تختلف الظروف بعض الشيئ عن الدول العربية، وتؤثر تأثيراً مباشراً على تأخر الشباب في مشروع الزواج، ومن خلال ما رصدته من المحيط الذي أعيش به ، أستطيع أن أوجز أسباب عزوف الشباب عن الزواج في المهجر فيما يلي:
في الأجيال السابقة كانت الجامعة هي المكان الذي يتيح فرصة التعارف بين الشاب والفتاة وغالباً ما كانت علاقات جادة تنتهي بالزواج فور التخرج والعمل، لكن هنا في المهجر وبسبب المنافسة القوية اثناء الدراسة الجامعية من أجل الحصول على معدل عال يؤهل الشاب أو الفتاة للتخرج بتفوق والحصول على عمل جيد جعل الكثير من الشباب يركزون على دراستهم أكثر من الارتباط بعلاقات عاطفية قد تنتهي بزواج..
معظم طلبة الجامعة يحصلون على قروض لتسديد تكاليف دراستهم الجامعية والتي تتطلب سدادها فور تخرجهم، وهذا يضع عليهم عبء مادي كبير يجعلهم غير قادرين على الزواج إلا بعد فترة طويلة من التخرج.
التفكير في المستقبل المهني يسيطر على جٌل تفكير معظم الشباب، ما أن يتخرجوا من الجامعة حتى يبدأون في التخطيط لمستقبلهم بتحديد أهدافهم والعمل على تحقيقها ، ويصبح تأمين أنفسهم مادياً ووظيفياً من أولوياتهم، فمنهم من يستكمل دراسته العليا فور تخرجه من الجامعة ومنهم من يعمل على تطوير مهاراته من خلال دورات في مجال تخصصه، أما من يرتبط بعمل فهو على استعداد لتقبل أي شرط في سبيل إثبات نفسه، ومعظم الأعمال تتطلب من الشباب أن تكون لديهم مرونة واستعداد للتنقل بسهولة وهذا بلا شك يؤخر موضوع الزواج لدى الشباب، دوامة الإنشغالات هذه تستنزف وقتهم وطاقتهم فلا يجدون الوقت الكافي للدخول في علاقات جادة .
بسبب العمل بعيداً عن الأهل يتعود الشباب على الوحدة وإسلوب حياة روتيني مفصل حسب رغباتهم وفيه الكثير من الخصوصية ، مما يجعلهم يتجنبون الزواج حتى لا يغيروا نمط حياتهم الذي تعودوا عليه.
لا شك بأن اختلاف الحضارات قد خلق حالة من الصراع عند الشباب من كلا الجنسين، يشعرون بأن لهم الحرية في اختيار شركاء حياتهم دون الاهتمام بالنواحي التي يهتم بها الأهل كالمستوى الاجتماعي، الأصول الإثنية، الديانة مما يعرضهم لصدام مع الأهل الذين يرفضون خياراتهم، فيصرفون النظر عن مشروع الزواج أو تأجيله تجنباً للمشاكل..
بعض الشباب ممن تعرضوا لتجارب عاطفية فاشلة أصبح لديهم خوف من خوض التجربة حتى لا يتعرضوا للفشل مرة أخرى ولذلك يضربون عن موضوع الزواج..
الزواج علاقة تكاملية مبنية على التضحيات والأخذ والعطاء، لكن هناك نوعاً من الشباب يكون أنانياً ولا يؤمن بهذا المبدأ ولذلك لا يفضل بأن يلتزم برباط الزواج حتى لا يضطر للتضحية ويؤجل مشروع الزواج لعدم رغبته في تقديم بعض التنازلات أو التخلي عن بعض اهتماماته التي قد تتعارض مع حياته الجديدة في وجود شريكة حياة وأطفال.
أيضاً من ضمن النقاط التي طرحها بعض الشباب هنا في كندا القوانين الصارمة في حال الانفصال يحق لأي من الزوجين أن يطالب بالعيش بنفس المستوى المعيشي قبل الطلاق وعلى الطرف الذي يتحصل على الدخل الأعلى تعويض الطرف الأخر (ينطبق على كل من الرجل والمرأة)، هذا الأمر يفرمل حماس الشباب من كلا الجنسين على التسرع باتخاذ قرار الزواج حتى لا ينتهي بالانفصال ويدخلون في مشاكل قضائية تستنزف مواردهم المالية..أحد الشباب أخبرني بأنه لن يقدم على الزواج مالم تكن الأمور واضحة منذ البداية للطرف الأخر تفادياً للمشاكل رغم انه أقدم على محاولة لخطبة فتاة ولم يٌكتب لها النجاح لأن الأهل والفتاة لم يتقبلوا فكرته في الزواج بكتابة بنود واضحة تحفظ حقه وحق شريكته على حد السواء.
قناعتي الشخصية بأنه علينا كأهالي أن نتفهم بأن هذا الزمن غير زمننا وبأن نظرة أبنائنا للزواج ليست بالضرورة تشبه نظرتنا، لا أؤمن بتزويج الأبناء في سن مبكرة بسبب عدم اكتمال النضج العاطفي وقلة الخبرة في الحياة، جميل أن يفكر الأبناء في الدراسة والعمل ويضعوهم في المقام الأول، لكن لست مع أن يأخذ العمل جٌل تفكير الأبناء ، لاشيء على حساب شيئ ، فهناك أمور بالحياة مكملة لبعضها البعض وعلينا أن نوصل هذه الرسالة لأبنائنا بان يكونوا متوازنين في كل شؤون حياتهم بحيث لا تسرق طموحاتهم جوانب أخرى مهمة كالزواج وتكوين أسرة.
وتبقى الكلمة الأولى والأخيرة للقسمة والنصيب، أؤمن بهذا كثيراً في موضوع الزواج، وما علينا كأهالي إلا تذكير أبنائنا بوجوب التفكير في بناء أسرة ومساعدتهم مادياً ومعنوياً حتى نسهل عليهم الخطوة الأولى وتحقيق معادلة التوازن في حياتهم.
أتقدم بالتهاني والتبريكات للجالية المسلمة بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك ..وكل عام وأنتم بخير
سلوى حماد