لم يوقظه اقتحامهم خلوته فجرا، فقد استفحل الأرق في عينيه طيلة الظلام بعد أن علم أن الفجر سيكون أوان القصاص . كان يأمل في تلك الخلوة الموحشة أن يكون الخوف الذي ساوره والهلع الذي أحاطه وألم انطلاق الروح إلى بارئها عند الفجر مطهرا له من آثامه وجرائمه وخطاياه , كان يناجي ربه باكيا : إلهي أريد الخلاص والنجاة من هذا السجن اللعين ولا مناص منه بين هذه الحيطان الجرداء والأبواب المؤصدة والقيود المحكمة إلا إليك فاغفرلي خطيئتي حين أهبط إلى ذلك الحيز الأبدي فقد اصبحت منصة الأعدام هي البوابة الوحيدة للهرب من جحيم القيود وقسوة السجن .
دنا منه كبير الحراس , خاطبه بوجه حزين : قم لتواجه قدرك يابني . أرجو أن لاتنظر إلينا بعين الكره والعداء ، لسنا أعداء لك يابني ولا القاضي الذي أرسلك إلى حجرة الأعدام، أو رجال الأمن الذين وضعوا القيد في يديك متلبسا , لم نشفق على أحد كما نشفق على الذين نيسر بهم الى ذلك الحبل المعقود. عدوك الحقيقي هو نفسك التي اقتادتك إلى منزل تلك الأرملة الآمنة ويتيمها الوحيد لتغرس سكينك في جسديهما من أجل هدف دنيء. نفسك التي رفعت عنك الشعور بالرحمة والأحساس بالشفقة، النفس يابني هي من تقودنا إلى الشر والمعصية والقتل والفتك والدمار إذا أخذت تسير بنا بعيدا عن سلطة الضمير وقوة العقل والتدبير.
هي التي تخلت عنك عندما تمكنت منك عدالة الله . أعي أن كلماتي متأخرة لن تخرجك من هذه الزنزانة حيا لكنها قد تساعدك على البراءة من نفسك الشريرة بقوة وإيمان أمام الله .
نهضوا به وهو ينظر إلى وجوههم الكئيبة بعينيه المحمرتين، أطال النظر إلى ذلك الحبل المتدلي، وضعوا القناع على وجهه المرتجف، خاطبه صاحبه قائلا : والآن يابني توجه الى الله بتوبة خالصة ترفع عنك آثار الأثم والذنب قبل أن تنطق الشهادتين بصدق وإيمان .
أطلق الشهادتين بصوت متقطع ضعيف، ثم تمتم قائلا : ما أقسى أن يتوب المرء عن أثم لم يقترفه أبدا .