الوقت... علاقتي بالوقت بدأت منذ زمن بعيد، كنت أراقبه بعيون صغيرة من ساعة خُلعت على حائط يحمل اسمها، كان معصمي فارغًا من علامات الوقت إلى أن تفتحت براعم الياسمين في معصمي فطّرقَتُ بأنامل الصبا الخجولة أبوابه لأسأله عن الوقت.
أهداني الوقت ساعة جميلة زينت فيها معصمي وارتبطت به، وضع بصمته فأصبحنا توأمين لا نفترق إلا للحظات الوضوء من أجل الصلاة؛ فوقتي لم يكن ضد الماء! لذلك كان يترجل ويجلس إلى جانبي بكل وقار حتى أفرغ من وضوئي وأحتضنه، أعود إليه وتسري الدماء من جديد في روحينا وفي معصم ينبض من قلبين.
الوقت كان ظلي الذي لا يسبقني ولا أسبقه، لا أخطو خطوة إلى الأمام أو الوراء إلا وهو يخطوها معي، لا أتنفس عبير هذه الحياة إلا ويتنفسها معي، نستقبل معًا النهار، الصيف، الأفراح، ونودع معًا المساء، الخريف، ليالي الشتاء الباردة، ساعات الفراق الحزينة.
كنتُ في أروقة الزمن الجميل أدور معه وبرفقته، أنتظر أحبتي في أزقته، وينتظرونني هم على قهوة الصباح وحديث المساء، كانوا أحيانًا في بعض الصباحات الفريدة يضرمون المواعيد على موائد الصباح فكانت "مناقيش الزعتر" تدور بين الأيادي... هيَّ في كفٍّ وكأس الشاي في كفٍّ آخر، والوقت يدور بيننا في تناغم وانسجام ولهفة مشتاق.
كان يفرح لفرحنا بل كان يسبقني للفرح وينتظرني معهم لنكون معًا، وحين ينتابني بعض الكسل كان يثور عليَّ، وينتفض بعصبية، وينتظرني عند حافة الدرج.
الوقت كان مثلي قد أدمن قهوة الصباح في ذلك البيت العتيق وأدمن موائد الصباح، ضحكات الصباح، غمزات الصباح، حتى أنه كان يسبقني إلى هناك، ويسجل حضوري، ويكتب مواعيدي إلى هناك ليؤكد لهم أنني دائمًا أنني كنت حاضرة... وعلى الوقت.
الوقت تغير، أو ربما أنا تغيرت... بدأت أشعر أن الوقت يخنقني، وأنَّ أصابع الوقت تطبق على معصمي، تذرعت مرات ومرات بأن: معصمي قد كبر، هرم، لم يعد يحتمل عنف الوقت.
بل أنه لم يعد يجيد قراءة رسائل الوقت دون الاستعانة بصديق من خارج دائرة الوقت! بدأت أتذرع بحجج واهية: أن الوقت ليس هو، وأنه تخلَّف عن الركب، وأصبح يتثاءب في ساعات الضحى ويسهر حتى آذان الفجر.
وأخذت أتربص به، لأضبطه وهو يتسلل إلى أماكن لم تكن في جدول مواعيدنا... وأكثر من مرة ضبطته متلبسًا يرتشف القهوة وحده من دوني... وفي مرَّة كان أكثر جرأة فيها من كل مرَّة أعدَّ مائدة الإفطار لنفسه وحده دون أن يدعوني!
الوقت تمرد عليَّ وأصبحت له حياته الخاصة، ما عاد يجدي أن أصطحبه معي في مواعيد قهوة الصباح، ولا على موائد الصباح حيث كانت تدور "مناقيش الزعتر" وكؤوس الشاي، ما عاد الوقت يتقن فن انتظار الصباح، النهار، الصيف، الفرح... وما عاد يتقن أيضًا وداع لحظات المساء، وليالي الشتاء، وخريف العمر.
الوقت أصبح منشغلًا في نفسه، أصبحت له ذاكرة مستقلة عني... وربما لو فتشت في دفاتره لوجدت لديه مواعيدَ أضرمت في آخر بقاع الأرض!
خطاه أصبحت تسير عكس خطاي، أصبح يغلق نوافذه في عزَّ الصباح وعزَّ الشروق ولا يرحب كثيرًا بساعات النهار، أصبح ينزوي على نفسه في ركن قصي... يكتب مذكراته على أوراق من الصبر والشوك ولم يترك لي إلا بعضًا من العناوين التي لم أفهم منها سوى أنه أصبح متمردًا، وأصبح خارج معصمي... وأصبح معصمي فارغًا من علامات الوقت.
حياتي لم تعد تزينها ساعة الوقت... كتبي، دفاتر مذكراتي، لوحات الحائط، وتلك النبتة المسكينة التي عاشت عمرها بيني وبينه... كنت أشكُلُ إليها جدائلها بشرائط الوقت الحريرية... ماذا تريد نبتة مثلها من الوقت وشرائط الوقت؟
ماذا تحتاج هيَّ من كل الوقت؟
ومع ذلك لم أعفها. وكان الوقت يتبختر على جدائلها وأنفاسها، يطول معها، يمتد معها، ويتسلق تلك الجدران!
اليوم النبتة شبه ذابلة، ساعة الوقت لم تعد تدرك معنى الوقت ولا وقته، والوقت شارد يسير بخطى تائهة أوسع من خطى الضياع... يوغل ويوغل في مساحات أكبر من الغربة والضياع، يوغل في غربة أكبر، ويرسل إليًّ مواعيد جديدة من هناك... ولكن بتوقيت الغربة!