الزواج مشروع إنساني كبير الهدف منه تأسيس أسر متماسكة تنعم بالاستقراروالألفة لأنها هي اللبنات التي تٌبنى بها المجتمعات..قال الله سبحانه وتعالى " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لأيات لقوم يتفكرون"..حقيقة هذه الأية الكريمة تضع منهجاً راقياً لطبيعة العلاقة بين الأزواج..
في هذا المقال سأتحدث عن مشكلة باتت تهدد بيوتاً كثيرة ، هذه المشكلة هي الصمت بين الأزواج أو ما يسمى بالخرس الزوجي وآثاره السلبية التي قد تؤدي إلى إنفصال الزوجين عاطفياً ومن ثم الأنفصال النهائي..
المودة والرحمة أهم ما يميز العلاقة الزوجية الناجحة..والمودة يمكن ترجمتها في سلوكيات إنسانية يقوم بها كلا الزوجين لبعضهما البعض، كالملاطفة والممازحة ونشر الروح المرحة في البيت، بالإضافة للحواروالمشاركة في صنع القرارات، واهتمام كل طرف بما يؤرق الطرف الآخر ومحاولة تبديد همومه، المودة هي من تجعل البيت بيئة صحية خالية من المشاحنات صالحة لتربية أبناء أسوياء خاليين من العقد النفسية.
أما الرحمة فهي شعور كلا الزوجين بشريكه والإحساس به في حالة المرض أو الحزن ومحاولة التخفيف عنه، فالزوج يقوم بالترويح عن زوجته ومساعدتها في مسؤوليات الحياة رحمة بها، والزوجة تشفق على زوجها عندما تعجزه الظروف عن توفير جميع مستلزماتها ، فتصبر عليه وتعينه وتخفف عنه ولا تثقل عليه بطلباتها، الرحمة هي مواساة كل منهما للأخر عندما تصيبهما مصيبة كالمرض أو فقدان عزيز..الرحمة هي عدم قهر الأخر لأي سبب والحفاظ على عشرة طيبة فكلاهما سكن لبعضهما البعض.
نعود إلى موضوع هذا المقال، وهو حالة الخرس بين الأزواج، ويمكن تعريفها على أنها حالة جفاف عاطفي تؤدي إلى الصمت بين الزوجين بحيث تقتصر أحاديثهما على مواضيع محددة خاصة بالأسرة وفي نطاق مختصريصل أحياناً لبضع كلمات مقتضبة على شكل سؤال وجواب..هذه الحالة تجعل الجو العام في البيت كئيباً خالياً من أي مظهر من مظاهر البهجة والسعادة..
وللحديث عن هذا الموضوع سأستعين بتجارب واقعية حتى أقرّب الصورة إلى ذهن القارئ أكثر.
في حوار لي مع إحدى الصديقات والتي كانت تشكو من عدم وجود أحد تفضفض معه بما يؤرقها في الغربة ، فقلت لها : دردشي مع زوجك، بالتأكيد سيكون حواركما مثمراً..ضحكت ضحكة ساخرة فيها بعض الألم وقالت: زوجي لا يعطيني فرصة للحديث معه، فهو إما متعب من العمل ولا يريد أن يناقش شيئاً أو منشغلاً مع أصدقائه خارج المنزل، وإن تواجد في المنزل فهو يتنقل ما بين هاتفه وجهاز اللابتوب ولا نسمع صوته إلا عندما يزعجه صوت الأولاد فيصرخ معترضاً ليسكتهم، وعندما أعاتبه يجيبني بأنه غير مقصرفي حقي وحق أولاده وانه يعمل ساعات طويلة من أجل توفير حياة كريمة لنا..قلت لها: متى تفتحين معه حوار؟ أجابتني ليس عندي وقت إلا وقت عودته من العمل ونحن على العشاء..
في حالة صديقتي هذه أعتقد أن عدم اختيار الوقت المناسب لطرح ما تود مناقشته هو سبب نفور زوجها وعزوفه عن الحوار معها..أيضاً الحديث دائماً عن المشاكل والهموم ينفر الطرف الأخر ويزيد من ضغوطه النفسية.
أما القصة الأخرى فكانت بخصوص أحد الزملاء في العمل وكان يحمل درجة الدكتوراة ، كان شخصاً صاحب شخصية كاريزمية، ومثقف ثقافة عاليةً ومحاور من الطراز الأول، وعندما قابلت زوجته في إحدى المناسبات وجدتها سيدة جميلة جداً وأنيقة وتصغره بعدة أعوام..تبادلت معها الحديث لكنها كانت تجيبني بتلعثم وشعرت باهتزاز شخصيتها وعدم قدرتها على مجارة الجلسة التي كانت ثرية بالنقاشات المختلفة..ظلت صامتة ولا ترد إلا على أسئلتي بأجوبة مقتضبة..وتساءلت بيني وبين نفسي وقتها، كيف لم يستطيع زوجها أن يأخذ بيدها لتصبح متحدثة لبقة مثله..بعد ذلك اللقاء شعرت هي بالراحة للحديث معي وأصبحنا نتواصل عبر الهاتف، إلى أن حدثتني ذات يوم عن طبيعة علاقتها بزوجها وأن بينها وبينه مسافات كبيرة ، قالت لي : نتحدث بضع كلمات أثناء وجبة الغذاء أو العشاء، هو يقضي جل وقته في غرفة المكتب وأنا أجلس أمام التلفاز وحدي أقلب المحطات إلى أن يغلبني النعاس وأخلد للنوم، فأنا أشعر بالوحدة خاصة وانني بالغربة وليس هناك أحد من أهلي بجانبي، لولا وسائل الاتصال الحديثة لفقدت القدرة على الكلام..أردت مساعدتها فقررت التحدث لزوجها خاصة إنه يكن لي احتراماً كبيراً، وسألته عن زوجته ولماذا هي خجولة ولماذا لا يصطحبها معه للندوات الثقافية التي يحضرها ..وكان رده صاعقاً...قال لي: هي صغيرة في السن وليس لديها خبرة وثقافتها محدودة لأنها من بيئة محافظة، قلت له: بإمكانك تثقيفها، شاركها بأفكارك، حاورها...قال لي : لا يوجد اهتمامات مشتركة بيننا وليس هناك مواضيع نتناقش فيها ، عندها التلفاز تتعلم منه لو أرادت..ليس لدي وقت ، تعلمين عملي الأكاديمي يتطلب مني الكثير من الجهد بالإضافة إلى منشوراتي العلمية التي تحتاج إلى بحث وتركيز..شعرت وقتها بأن هذه الشخصية الكاريزمية تتهاوى أمامي وحزنت أكثر لأجلها..
في هذه الحكاية تجتمع عدة أسباب، أهمهاعدم التوافق الفكري والتباين في المستوى التعليمي والثقافي، أيضا فارق العمر لعب دوراً كبيراً في اتساع الهوة بينهما، والنتيجة توقف التواصل الكلامي بينهما واقتصاره على أحاديث مقتضبة عن المتطلبات اليومية..
القصة الأخيرة كانت لجارة لي ، كان زوجها يعمل بنظام المناوبة، فقد كان يغيب خمسة أيام بالإسبوع ويأتي يومين تاركاً لها المسؤولية كاملة، وعندما يأتي للبيت يرفض الحديث معها عن أي مشكلة متعللاً بأنه متعب وجاء ليرتاح ولا يريد صداع..وكانت كل محاولة منها في إشراكه في مسؤوليات الأولاد تنتهي بشجار، وبمرور الوقت حتى تنجو من المشاكل صمتت ولم تعد تناقشه في أي موضوع، ورتبت نظام حياتها على هذا الأساس، تعاملت معه على إنه مجرد مورد مالي وزائرنهاية الإسبوع، أصبح لها روتينها الخاص ولم يعد حضوره أو غيابه يؤثر على مخططاتها، وهو تعود على أن لا يفتح حوارات هرباً من المشاكل، واصبحت أحاديثهما رسمية جداً.
في هذه الحكاية جاء الصمت نتيجة البعد والغياب عن المنزل..تعود كلا الزوجين على نمط حياة معين واختارا الصمت من أجل أن لا يتدخل أحدهما في روتين الأخر.
هناك قصصاً عديدة أحتاج لصفحات كثيرة لسردها لكنني سأكتفي بما ذكرت..و سأحاول أن استخلص بعض الأسباب التي تؤدي لحالة الجمود والصمت بين الأزواج وأن أجتهد في وضع بعض الحلول من وجهة نظري.
في تقديري أن أهم أسباب للصمت الزوجي هو غياب المشاعر وقلة الوعي وعدم فهم كل طرف لطبيعة الأخر.. فهم طباع كل شريك لشريكه أمر مهم لأنه يٌبنى عليه طريقة التواصل الصحيحة..
أيضاً وجود تباين في المستوى الثقافي والعلمي بين الزوجين يجعل الحديث مقتصراً على أمور حياتية فقط لعدم القدرة لأحد الشريكين على مجاراة شريكه..
أحياناً تكون الاهتمامات المشتركة مدخلاً لاستمرار التواصل، كأن يحب الزوجان رياضة المشي ومن خلال ممارسة هذه الرياضة يكون هناك فرصة للحوار بينهما.
أيضاً اختيار الوقت المناسب للحديث مهم جداً، أحياناً يكون انقطاع الحديث بسبب عدم اختيار الوقت الصحيح، كأن تقوم الزوجة بطرح مشاكل البيت والأولاد على مسمع الزوج حال عودته من العمل، والنتيجة صد من قبله وعدم تواصله بالطريقة الصحيحة بسبب إرهاقه..ماذا لو كل زوجة صبرت بعض الوقت كي يرتاح زوجها من ضغوط عمله ليستمع لها وهو أكثر راحة وقدرة على استيعاب المشاكل وإيجاد حلول مناسبة لها؟!
إهمال الرجل للتفاصيل الصغيرة لزوجته وبخله العاطفي يجعلها تبتعد عن الدخول معه في نقاشات لإحساسها بأنه لا يهتم بها ولذلك ترى بأنه لا داعي لفتح أي حوار معه بأي شيئ يخصها.
أيضاً قيام أحد الزوجين بسلوكيات منفرة تجعل الطرف الأخر يعزف عن التواصل معه إلا في أضيق الحدود، كالتعالي والغروروالعصبية والإهانات اللفظية والتطاول الجسدي..كل هذه السلوكيات تكون سبباً في انقطاع التواصل من الطرف المتضررالذي ينأى بنفسه بعيداً عن المشاكل ويلتزم الصمت.
البيئة أيضاً لها دور كما للتنشئة دور، فالرجل الشرقي عادة ما يكون متحفظاً في الإفصاح عن مشاعره حتى لا تٌنتقص رجولته، ويفضل أن يعيش دور سي السيد الذي يهيمن على البيت، وهذا النوع يتعامل مع زوجته بتحفظ خوفاً من أن أن تهتز هيبته فالكلام عنده بميزان، وبعض الزوجات تربين في بيئة لا تٌعطى فيها البنت الحرية للإفصاح عن رأيها وتظل على هذا الحال حتى مع زوجها فلا تناقش ولا تبادر بفتح أحاديث.
ولا ننسى التكنولوجيا وتأثيرها، لقد أصبح التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي أكثر حضوراً من التواصل الواقعي بين أفراد الأسرة ممن يقيمون تحت سقف بيت واحد، تجد كل فرد ابتداء من الزوج والزوجة ثم الأبناء في حالة صمت لأن كل منهم معتكفاً في ركن مع عالمه الافتراضي الذي بات أكثر أهميه من عالمه الواقعي..
نتيجة لما ذكرت فإن الكثير من الأزواج يعيشون تحت سقف واحد يجمعهم مبدأ التعايش من أجل الحفاظ على صورة الأسرة لكن هذا الأمرغير صحي وغير دائم، لأن التعايش كالتزلج على نهر متجمد، له مخاطره لأنه قد ينهار فجأة وينهي كل شيئ، في مبدأ التعايش يلجأ الزوج أو الزوجة للصمت عن سلبيات الأخر على مضض وهذا يسبب ضغط نفسي قد يؤدي لأمراض نفسية وعضوية..لذلك أجد أن أول خطوة يجب أن يقوم بها الزوجين هي محاولة فهم كل منهما للأخر ومعرفة ما يحب وما يكره ويحاول كلاهما أن يضحي من أجل الوقوف في مسافة مناسبة تتيح لكلاهما التنفس بحرية والإحساس بأن كل منهما له قيمته ودوره في إدارة مؤسسة الزواج.
ولا ننسى الأبناء، فالبيت الذي يسوده المرح والتناغم بين الزوجين يشعر فيه الأبناء بالأمان والهدوء النفسي مما ينعكس على شخصياتهم وسلوكياتهم وأدائهم العلمي إنعكاساً إيجابياً.
همسة لكل زوجة..الزوج ليس مجرد مورّد مالي وحلال مشاكل فقط، هو شريك حياة وعليه ضغوط ولديه مشاكل، لذلك كوني دائماً بجانبه ، ساعديه حتى يحقق أحلامه التي ستنعكس عليك وعلى أبنائكم ايجاباً، أعطه مساحة من الحرية حتى لا يختنق، تفهمي حاجاته ، اقتربي من اهتماماته وشاركيه اياها..كوني له سنداً وعوناً لأن الحياة رحلة تحتاج لشركاء مخلصين.
همسة لكل زوج..الزوجة ليست مجرد آلة لإنجاب الأطفال وإشباع رغباتك ، هي ليست تكملة لصورتك الاجتماعية فقط ، بل هي تكملك أنت كإنسان فاحرص على أن تحافظ عليها وتشجعها بالكلمة الطيبة واللمسة الحانية، ثق بقدراتها وشجعها لتخرج كل ما لديها من إمكانيات، فالزوجة القوية الواثقة من نفسها تقويك وتكون لك سنداً قوياً وتربي لك أبنائك بطريقة سليمة.
كلمة أخيرة....لاتقتلوا مشاعركم بالصمت..فليس دائماً السكوت من ذهب...
سلوى حماد