يأتي اليوم العالمي للحياد الإيجابي الذي يوافق يوم 12 من ديسمبرضمن أجندة هيئة الأمم المتحدة لشهر ديسمبر، وتعرفه هيئة الأمم المتحدة على صفحتها الرسمية بأنه " الوضع القانوني الناجم عن امتناع دولة عن المشاركة في حرب مع دول أخرى، والحفاظ على موقف الحياد تجاه المتحاربين، واعتراف المتحاربين بهذا الامتناع وعدم التحيز".
وهذا يعني بأن الحياد الإيجابي من وجهة النظر السياسية هي عدم التدخل أو المشاركة في أي صراع بين دولتين، والوقوف في المنتصف بين أطراف الصراع (المعتدي والمعتدى عليه)، وذلك حتى يتسنى حل الخلافات بالطرق السلمية وتحت مظلة الأمم المتحدة في محاولة لعدم توسع رقعة الصراع..لكن من وجهة نظري المتواضعة ومن خلال أحداث سياسية عديدة رأينا بأن المجتمع الدولي لم ينجح في حسم الكثير من القضايا بسبب المصالح السياسية.
لا أعتقد بأن الحياد الإيجابي ممكناً للعديد من الدول خاصة تلك التي ترتبط مصالحها بدول أخرى فيصبح قرارها مرتبطاً بهذه الدول..ولأن السياسة هي لغة المصالح فنرى بأن هناك تغيير دائم في الأيديولوجيات والأفكار حسب المستجدات، فمن كان عدو الأمس قد يصبح حليف اليوم.. لهذا لن أخوض كثيراً في مفهوم الحياد السياسي، وسأخصص هذا المقال لتأثير الحياد على المستوى الإنساني وتأثيره على العلاقات بين البشر.
على المستوى الإنساني كثيراً ما نسمع أمثلة شعبية تحثنا على الحياد والبعد عن الخوض في مشاكل الآخرين، فهناك مثل يقول" ما ينوب المخلص إلا تقطيع هدومه" ، " من تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لايرضيه" والنتيجة إننا أصبحنا نرى صراعات بين أفراد المجتمع الواحد ولا يتحرك طرف أخر لفض النزاع من باب عدم التدخل فيما لا يعنيه.. أرى بأن هذا ليس حياداً بالمعنى الحقيقي للحياد بل هو إنعدام للنخوة والضمير.
ما هو الحياد السلبي وما هو الحياد الإيجابي وماذا علينا أن نفعل حتى نكون محايدين معتدلين دون أن نلغي دورنا الإنساني في مناصرة الحق ومناهضة الظلم؟!
حتى تكون محايداً إيجابياً لابد أن تكون صاحب فكر ومنطق قادر على الاستنتاج والتحليل، ولديك ضمير حي، هذه هي الأدوات المهمة التي تؤهلك لأن تميز ما بين الخطأ والصواب، وأن تقف بجانب المظلوم أمام الظالم، لأن الضمير الحي لا يقبل أن ينحاز صاحبه للخطأ.
حتى تكون محايداً إيجابياً يجب أن تقف على مسافة واحدة من كل الأشخاص عند طرح موضوع أو قضية ما ، أدرس الموضوع جيداً وابحث في حيثياته دون أن تصدر أحكاماً مسبقة بناءً على قناعات شخصية، أو مشاعر عاطفية .
المحايد الإيجابي ينأى بنفسه عن الخوض في المشادات الكلامية التي لا فائدة منها خاصة عندما لا تكون لديه المعلومة الواضحة، كالنقاشات الدينية والسياسية التي تكدر السلم المجتمعي دون فائدة، لأن هذه النقاشات يفلسف فيها كل شخص الأمور حسب رؤيته الشخصية.
أما الحياد السلبي فهو من أخطر الظواهرالسلبية التي قد تدمر العلاقات الاجتماعية، وحقيقة أنا شخصياً أعتبره نوعاً من الخذلان أو الذاتية (الانحياز للمصلحة الشخصية فقط).
لايمكن أن نقف في منطقة رمادية ونمتنع عن التعبير عن رأينا وما يمليه علينا ضميرنا عندما يتعلق الأمر بظلم إنسان. لا يمكن لإنسان سوي عاقل أن يقف محايداً في المواقف الواضحة التي فيها جاني ومجني عليه، لأن هذا سيجعل المخطئ يتمادى في أخطائه..
من المشاهد اليومية نرصد الكثير من المواقف التي يقف فيها الناس صامتين تجاه صراع بين طرفين رغم وضوح الحقيقة ووجود طرف مظلوم وطرف ظالم لكنهم لا يجرؤون على نصرة المظلوم بسبب الخوف من سطوة ونفوذ الظالم، أو بسبب الحاجة المادية فيفضلون السكوت حتى لا يطالهم ضرروهؤلاء تنطبق عليهم المقولة " الساكت عن الحق شيطان أخرس"، الخوف من قول الحقيقة يخلق جيلاً مهزوزاً يخاف على مكتسباته أكتر من خوفه على مبادئه.
نأتي لموضوع مهم جداً ، وهو الحياد السلبي على المستوى الأسري، والذي لا يقره عقل ولا منطق، فالوقوف على الحياد تجاه المشاكل الأسرية دون التدخل من قبل أحد أعضاء الأسرة لحلها أمر غير مقبول لأنه قد تتفاقم المشاكل وتؤدي إلى تفكك الكيان الأسري برمته.
كيف يمكن تبرير وقوف الأب على سبيل المثال محايداً تجاه مشكلة بين الأبناء وهو يرى الحقيقة واضحة ولا يساهم بحلها ؟!
كيف لشخص أن يستولي على حقوق أحد أفراد أسرته ولا يجد من يردعه من الأسرة؟!
كيف لشخص أن يتخذ موقفاً معادياً من أحد أفراد العائلة ويقطع صلة رحمه لمجرد أنه انحاز عاطفياً لشخص ما ويقف أقرباء هذا الشخص دون أن يتدخلوا لتصليح الأمور؟!
كيف لزوج أن يعق والديه من أجل زوجته التي لا ترغب بالتواصل معهما ولا يجد من ينصحه من أفراد الأسرة ويذكره بضرورة برّ والديه ؟!
لنعترف بأننا قد نكون أحياناً غير حياديين وغير منصفين في أحكامنا عندما تكون الأمور عاطفية، لكن هذا لا يمنع بأن نفتح قلوبنا ونغسلها بطيب النوايا ونحكم ضمائرنا حتى نحافظ على الروابط الأسرية متينة ومترابطة.
الحياد في وسائل الإعلام:
الحيادية المطلقة لا وجود لها في المؤسسات الإعلامية خاصة تلك الممولة من قبل جهات معينة، لأنها حتما لن تتمتع بالاستقلالية التامة وستتبع أجندة الممولين، لكن المهنية وميثاق الشرف الإعلامي تتطلب من الإعلاميين الاصطفاف مع الخير ضد الشر وأن ينحازوا للقيم البشرية لأنها الأثمن على الإطلاق.
لا أستوعب تجاهل بعض وسائل الإعلام قضايا مهمة وملحة وعدم تسليط الضوء عليها بحجة إنهم محايدون، هذا حياد سلبي يدخل تحت بند الذاتية التي تجعلهم يغمضون أعينهم عن قضايا مهمة ويتطرقون لقضايا تافهة لا تفيد أحد. من أخلاقيات مهنة الإعلام هو إيضاح الحقائق مهما كانت النتائج وعدم تبني وجهات النظر المشبوهة من أجل منصب أو ربح مادي.
الحياد على مواقع التواصل الاجتماعي:
تعتبر منصات التواصل الاجتماعي كالمقاهي العامة التي يرتادها أنماط مختلفة من البشر كل يحمل وجهة نظر خاصة مبنية على ظروف معينة، هذه المنصات تعطي المساحة للكل للتعبير عن رأيه في مختلف القضايا دون ضوابط، ولذلك قد نصادف من يختلفون عنا تماماً فكراً وثقافة، وهنا يصبح الوقوف على الحياد وعدم التدخل في النقاشات شيئ إيجابي خاصة مع الفئات التي تتخذ مواقع التواصل الاجتماعي كحلبات للصراع يمارس فيها الأشخاص المتطرفين فكريا تعصبهم في كافة المجالات، سياسية، دينية، أو رياضية.
بالنهاية وفي ظل هذا الزمن الذي تحكمه الماديات والمصالح وحب الذات، علينا أن نتحلى بقيمنا وأخلاقنا وأن نحكم ضمائرنا وأن نسمي الأمور بمسمياتها، فالتدخل في شؤون البشرغير مطلوب في الأمور الخاصة، لكن يستوجب التدخل وأن لا نقف على الحياد في الأمور التي قد ينتج عنها ضرر للأخرين، وأختتم مقالي بالعنوان" الحياد ليس دائماً إيجابياً" ، بل كثير من الحياد سلبي وهادم وغير منصف..
سلوى حماد