عندما تمّ اعتماد الدستور الأميركي عام 1787 بعد الإستقلال عن بريطانيا عام 1776، كان هَم «الآباء المؤسسين» والذين شاركوا معهم من الشخصيات الأميركية آنذاك في وضع هذا الدستور، تأسيس دولة مستقلة تؤمّن أكبر مقدار ممكن من العدالة والمساواة بين الولايات الـ13 التي شكلت آنذاك «الجمهورية الفدرالية الدستورية» الأميركية، وكذلك بين المواطنين في هذه الجمهورية الجديدة. ومع أن كلمة «ديموقراطية» لم ترد إطلاقاً في النص الأصلي من الدستور الأميركي، إلا أن الولايات المتحدة، وفقاً لهذا الدستور، كانت جمهورية ديموقراطية الى حد ما، في معايير تلك الأزمنة.
من أدوات الديموقراطية ومعاييرها في عصرنا الحديث الإنتخابات الحرة والنزيهة التي تحقق تداول السلطة بصورة سلمية، والمساواة بين جميع المواطنين من دون تمييز في العرق أو الجنس أو الوضع الإجتماعي، وضمان الحريات العامة بما فيها حرية التعبير وحرية المعتقد وأمور أخرى لتأمين حياة مريحة للمواطنين. هذه المعايير للديموقراطية لم تكن بمعظمها موجودة عند تأسيس الولايات المتحدة في أواخر القرن الثامن عشر، وحتى الحق في الإنتخاب، الذي كان يعتبر أساس الحياة الديموقراطية آنذاك، لم يكن يشمل جميع المواطنين بل كان يقتصر، في معظم الولايات، على السكان الذكور البيض فقط الذين كان لديهم أملاك عقارية ويدفعون الضرائب.
تعتبر الولايات المتحدة الآن من الدول المتقدمة في مجال تطبيق الديموقراطة الى جانب كندا والدول الاسكندينافية ودول أخرى من أوروبا الغربية، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الديموقراطية المطبقة في الولايات المتحدة هي مثالية، إذ تشوبها تقليدياً عيوب كثيرة، نذكر أهمها باختصار قبل البحث في التحديات التي تواجه الديموقراطية الأميركية في المستقبل المنظور.
فبالنسبة الى الإنتخابات، هنالك عقبات كثيرة توضع إرادياً في طريق نزاهة الإنتخابات، مثل تقسيم الدوائر الإنتخابية حيث يحاول الحزب الذي لديه الأكثرية في الكونغرس تعديل نطاق هذه الدوائر ليضم اليها مناطق محاذية وله فيها أعداد ملموسة من المؤيدين، أو مثلاً ما تفعله الولايات التي يسيطر عليها حكام من الحزب الجمهوري حيث يحاولون وضع عقبات في طريق وصول الناخبين من العرق الأسود وذوي الدخل المنخفض (وهم بأكثريتهم من مؤيدي الحزب الديموقراطي) الى صناديق الإقتراع عبر التقليل من عدد الصناديق ووضعها في مناطق يصعب الوصول اليها للذين لا يملكون وسائل نقل خاصة بهم أو للذين لا يستطيعون الوصول الى هذه الصناديق بسهولة ومن دون كلفة كبيرة، إذ تجري الإنتخابات دائماً يوم الثلاثاء الذي يَلي أول يوم اثنين من تشرين الثاني، وهو يوم عمل، وكثيرون لا يستطيعون مغادرة مركز عملهم لفترة طويلة.
يُضاف الى هذه العقبات مسألة الكلفة التي يتكبّدها المرشحون لدفع نفقات الإعلانات المتلفزة والمكلفة جداً، ولطباعة ملايين الإعلانات وتوزيعها، وللإنتقال لمقابلة الناخبين من منطقة الى أخرى داخل الولاية غالباً بالطائرة بسبب المسافات الواسعة، علماً أن ولاية واحدة (ولاية رود آيلاند) من بين الولايات الأميركية الخمسين هي أصغر من لبنان في مساحتها.
وبالنسبة الى المساواة بين المواطنين، تحاول الولايات التي يسيطر عليها الجمهوريون وضع عقبات في عملية التصويت عن طريق طلب مستندات مختلفة للتصويت مثل إجازة السوق التي هي بمثابة بطاقة هوية هنا، والتي يصعب على الفقراء وعلى أعداد كبيرة من المواطنين السود الحصول عليها بسبب عدم حاجتهم اليها إذ لا يملكون سيارة، ما يحول دون تمكنهم من الإدلاء بأصواتهم، علما أن أكثرية أبناء هذه الطبقة هم، كما أشرنا سابقاً، من المؤيدين للحزب الديموقراطي.
كانت هذه بعض النواقص التي تشوب الديموقراطية في الولايات المتحدة عموما ومنذ عقود من الزمن. ولكن في الآونة الأخيرة، حصلت أمور كثيرة أدت الى تراجع إضافي في تجليات الديموقراطية الأميركية.
منظمة «فريدوم هاوس» هي منظمة غير حكومية تأسست في واشنطن عام 1941، وهي تقوم بأبحاث عن الديموقراطية، والحريات السياسية، وحقوق الإنسان، وتصدر تقارير تصنف فيها الدول بالنسبة الى هذه الأمور بحسب معايير معينة، مانِحة علامات لكل دولة تبدأ من الصفر للدول التي لا يوجد فيها حريات وديموقراطية، وصولا الى علامة المئة.
كانت الولايات المتحدة، منذ عشر سنوات، قد حصلت على علامة 94 حسب هذا التصنيف، وهي علامة جيدة جدا بالنسبة الى معايير الحياة الديموقراطية عموماً. ولكن أخيرا، هبطت هذه العلامة الى 83، أي بخسارة 11 نقطة، إذ أصبحت الديموقراطية الأميركية تأتي بعد بريطانيا (93) والتشيلي (93) وكوستا ريكا (91) وسلوفاكيا (90).
فبالإضافة الى الشوائب التقليدية التي كانت تعانيها الديموقراطية الأميركية، جاءت رئاسة دونالد ترامب التي بدأت في مطلع عام 2017 لتخلق عقبات وتحديات جديدة في الحياة الديموقراطية، سواء أثناء توليه الرئاسة أو بعد انتخاب خلفه جو بايدن.
فقد باشر ترامب عهده الرئاسي بالإدعاء، من دون أي أدلة حسية، أن أكثر من ثلاثة ملايين من المهاجرين غير حاملي الجنسية الأميركية صوّتوا ضده في الإنتخابات الرئاسية مؤيدين منافسته هيلاري كلينتون، وذلك في محاولة منه لإقناع أتباعه، بعيدا كل البعد عن الحقيقة، أنه فاز بفارق كبير جدا على كلينتون، ما بدأ يضع علامات استفهام على سلامة الإنتخابات ونزاهتها.
وفي خلال السنوات الأربع من رئاسته، أساء ترامب بشدة الى الحياة الديموقراطية الأميركية عبر إدارته البلاد بطريقة شبه ديكتاتورية، متجاوزا مبدأ الفصل بين السلطات، ومطلقا الأكاذيب في استمرار عبر حسابه على منصتي تويتر وفايسبوك، ما أدى في النهاية الى اتخاذ قرار من إدارة هاتين المنصتين بإقفال حسابه نهائيا، كما أن أحدى مؤسسات كشف الأخبار الكاذبة سجلت له، خلال فترة رئاسته، ثلاثين الف تصريح خطي أو شفهي كاذب أو مناف للحقيقة، أي بمعدل عشرين حالة في اليوم الواحد.
تميزت تصرفات ترامب ايضاً بقلة الأخلاقية عبر استعمال نفوذه الرئاسي للإستفادة الشخصية في مصالحه الخاصة، ونذكر على سبيل المثال الفندق الذي يملكه في واشنطن حيث كان ينزل كبار الشخصيات الدولية والوفود الزائرة لواشنطن وحيث كانت تقيم سفارات عدة مناسبات مختلفة، ما كان يدرّ عليه مبالغ كبيرة. هذا بالإضافة الى عقاراته في نيو يورك وخارج الولايات المتحدة، والى تعيين ابنته وزوجها في مراكز رفيعة في البيت الأبيض.
من الأمور الأخرى التي أدت الى تراجع واضح في الحياة الديموقراطية الأميركية اتخاذ ترامب، بموافقة حزبه الذي كانت له الأكثرية في الكونغرس في تلك الفترة، قرارات أدت الى أن يلعب العنصر المالي دورا أكبر في الحياة السياسية وخصوصا في الإنتخابات، عبر السماح بإنشاء منظمات تستطيع تقديم مساهمات مالية في الحملات الإنتخابية من دون سقف، بينما كان ذلك يخضع لبعض الحدود القانونية في السابق. وقد عين ترامب، في المحكمة العليا التي تراقب سلامة القوانين والقرارات الرئاسية، قضاة من المحافظين المؤيدين له، بحيث تأكد من عدم إمكانية كسر قراراته هذه.
تجدر الإشارة الى أن هذه التصرفات لم تكن مخالفة للقانون، ولكنها كانت بعيدة كل البعد عن الأخلاقيات التي ينبغي أن يتصرف بموجبها من يتولى رئاسة الدولة العظمى التي تدعي أنها حصن للديموقراطية وتعطي دروسا في الديموقراطية لسائر الدول. وقد سعى أعضاء الحزب الديموقراطي في الكونغرس الى إزاحة ترامب عن الرئاسة مرتين، ولكنهم لم يتمكنوا من الحصول على الأكثرية المطلوبة حسب الدستور نظراً لرفض مؤيدي ترامب من الحزب الجمهوري التصويت على عزله (صحيفة «الجمهورية» 16 شباط 2021).
بالإضافة إلى هذه الأمور، حصل اعتداء كبير على الديموقراطية في الولايات المتحدة بعد فوز بايدن في الإنتخابات الرئاسية حيث رفض ترامب ومؤيدوه الإعتراف بالهزيمة، متهمين الحزب الديموقراطي بالتزوير وبالتلاعب بصناديق الإقتراع، وقد اتصل ترامب هاتفيا، بعد إعلان النتائج، بأمين سر ولاية جورجيا حيث خسر بفارق بسيط، طالباً منه «إيجاد» 11780 صوتا لمصلحته إذ حصل بايدن على 11779 صوتا أكثر منه، علما أن هذه المكالمة الهاتفية نشرت في وسائل الإعلام، كما أجرى اتصالات مع مسؤولين آخرين سعيا الى قلب نتيجة الإنتخابات.
لقد أعيد فرز الأصوات في ولايات عدة، وتقدم ترامب بعشرات الدعاوى والشكاوى الى المحاكم المختصة، ولكنها جميعها باءت بالفشل، إذ لم يتمكن أحد من إثبات أي تلاعب أو تزوير من شأنه أن يغير نتيجة التصويت. وعلى رغم ذلك، بقي ترامب يصرّ على أنه هو الفائز ويقنع مناصريه بذلك، ما أدى في حينه الى ظهور تجمعات مسلحة في عدد من الولايات وأعمال شغب في بعض المدن.
أما التعرض الأكبر للديموقراطية فقد حصل عندما شجع ترامب مناصريه، يوم تصديق الكونغرس على نتيجة الإنتخاب في السادس من كانون الثاني، على اقتحام مبنى الكونغرس بالقوة للحؤول دون تمكين الأعضاء من القيام بمهمتهم الدستورية في التصديق على انتخاب بايدن، وقد وُصف ذلك بمحاولة انقلاب، وأدى الى سقوط عدد من القتلى والجرحى من قوى الأمن ومن المعتدين الذين تمكنوا من دخول المبنى بالقوة، ولا شك أن في ذلك اعتداء فاضحا على الديموقراطية في صلب مبنى الكونغرس الذي هو رمز الديموقراطية الأميركية، وهذا ما حمل البعض على تشبيه الولايات المتحدة بما يسمى «جمهوريات الموز».
والغريب في الأمر أنه، بعد مرور سنة على تسلم بايدن الرئاسة، ما زال 71 % من المنتسبين الى الحزب الجمهوري وفي طليعتهم ترامب نفسه، ومعظم أعضاء الكونغرس الجمهوريين، يقولون ان بايدن انتخب بصورة غير شرعية، وفي ذلك انتقاص كبير للديموقراطية الأميركية، الى درجة أن «القمة للديموقراطية» التي عقدها بايدن افتراضيا في العاشر من الشهر الماضي وشارك فيها أكثر من مئة دولة، رافقها شكوك واستهزاء في بعض وسائل الإعلام.
ومن أهم الدلائل على تراجع الحياة الديموقراطية في الولايات المتحدة بسبب ترامب أن بايدن ركز كثيرا في حملته الإنتخابية، وفي معظم خطاباته السياسية بعد تسلمه الرئاسة، على ضرورة إعادة الديموقراطية الى الولايات المتحدة، وعلى احترامه التام للأصول الديموقراطية في الحكم، كما أن وسائل الإعلام المحلية تتحدث بصورة شبه يومية عن المخاطر والتحديات الكبرى التي تتعرض لها الديموقراطية الأميركية.
لقد صدر في الولايات المتحدة عام 2018 كتاب بعنوان «كيف تموت الديموقراطيات» للمؤلفين دانيال زيبلات وستيفن ليفيتسكي، وفي الكتاب تحذير واضح من المخاطر التي تهدد الديموقراطية الأميركية بسبب ترامب بالذات وطريقة حكمه، وفي عام 2021 اعتبرت مجلة «ذي إيكونومست» هذا الكتاب أهم كتاب يصدر عن عهد ترامب في الحكم، خصوصا انه يوضح أن الديموقراطيات هذه الأيام تموت «على أيدي حكام منتخبين أكثر مما تموت على أيدي رجال مسلحين».
ومن هنا يُستنتَج ان الديموقراطية الأميركية ما زالت في خطر ملموس، وتواجه تحديات جمة، كون ترامب ما زال له تأثير واضح على عشرات الملايين من الناخبين الأميركيين، ومن المحتمل أن يترشح مجددا للإنتخابات الرئاسية عام 2024 مع إمكانية فوزه، ومن هذا المنطلق يسعى الديموقراطيون في الكونغرس جهدهم لتعديل قانون الإنتخاب لتسهيل وصول أكبر عدد ممكن من الناخبين الى صناديق الإقتراع، وذلك عبر الحد من العقبات التي يضعها الجمهوريون في طريقهم، وعبر جعل يوم الإنتخاب عطلة رسمية، ولكن الحزب الديموقراطي وحده لا يملك الأصوات الكافية المطلوبة لتبني مثل هذا القانون الذي يعارضه الجمهوريون بقوة.
إنّ مساعي بايدن لتعزيز الحياة الديموقراطية في الولايات المتحدة مهمة جدا، وقد تعطي بعض الثمار قبل القمة الثانية للديموقراطية التي ستعقد حضوريا في واشنطن أواخر هذه السنة إذا سمحت الظروف الصحية في العالم، ولكن شبح ترامب سيبقى مخيما على الحياة السياسية، ولن يتضح المسار الذي ستسلكه الديموقراطية الأميركية الا بعد انتخابات 2024.