في الحادي والعشرين من سبتمبر من كل عام يحتفل العالم باليوم العالمي للسلام الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفيه يلتزم العالم بوقف العنف وإطلاق النار لمدة 24 ساعة..كثيرون يتساءلون ، هل إيقاف العنف لمدة يوم كاف لأن يعم السلام على كوكب الأرض..بالتأكيد لا، لأن السلام مطلب إنساني ملح في ظل نزعات الشر والأطماع البشرية التي بدأت منذ بدء الخليقة ومازلنا نراها حتى يومنا هذا في صورة صراعات وحروب مدمرة تحصد أرواح ملايين البشرومن ينجومن الموت يصاب بخلل في تركيبته النفسية..إذا السلام لا يمكن اختزاله في يوم عالمي، أو معاهدة مؤقتة بل هو محور حياة ويجب أن يكون ثقافة فردية مجتمعية حتى يستمر ولا يكون مرهوناً بتاريخ صلاحية، لكن يبقى التذكير به من خلال تحديد يوماً خاصاً به أمر جيد.
لطالما تكرر مصطلح السلام في منطقة الشرق الأوسط التي جئنا منها، وهي منطقة أنهكتها الحروب والصراعات وسمعنا عن معاهدت سلم عقدت لكنها لم تكن منصفة ولذلك فشلت في إحلال السلام بين الأطراف المتصارعة، ولم تنجح كل مؤتمرات السلام في إيجاد حلولاً ناجعة للفصل في القضايا المهمة التي تستهدف سلام الشعوب وحقها في العيش بأمان، لذلك لن أسهب في هذا الجانب الضبابي، لكنني استخلصت مما سبق بأن المعاهدات والمؤتمرات لا تصنع سلاماً دائماً..
لكي يكون هناك سلاماً دائماً علينا أن نبدأ بالأفراد، وأن يصبح السلام ثقافة وليس حبر في معاهدات.. وأقتبس هنا مقولة لميخائيل نعيمة تقول: " السلام لا يولد في المؤتمرات الدولية بل في قلوب الناس وأفكارهم" وهذا بالضبط ما أريد التطرق له في مقالي هذا وهو أن السلام على المستوى الفردي هو الخطوة الأهم في ترسيخ السلام في المجتمعات.
في تقديري أن سلام الشعوب لا يتحقق فقط بإنهاء الصراعات الدائرة على الحدود، فهناك سلام أكثر استدامة ، ذلك الذي يوفر الاستقرار، والتعايش بين أفراد المجتمع والأمن الاجتماعي، ويندرج تحته الأمن الغذائي والأمن الصحي، الأمن الوظيفي، والعدل وتكافؤ الفرص وحرية التعبير..السلام الحقيقي ينبع من دواخلنا عندما نشعر بآدميتنا عندما نٌعامل بمساواة وعدل، عندها سنلتزم بالمعايير الإنسانية في تعاملاتنا مع بعضنا البعض، ونحتكم إلى الأخلاق والضمير ونقبل بعضنا البعض رغم الاختلافات.
كلنا يسعى للعيش بسلام دون صراعات لكن النفس البشرية أمارة بالسوء، فهناك الحسود وهناك الطماع وهناك الوصولي ،كثيرون يطمعون فيما يملكه الغير ولذلك معظم الصراعات تأتي من عدم رضا الشخص بما قدره الله له وطمعه فيما يملكه الآخر ولذلك سيبقى الإنسان في حالة صراع من أجل البقاء مادامت الحياة، لكن أقل ما يمكن فعله هو تخفيف حدة هذه الصراعات والوصول إلى حالة السلام الداخلي ما استطعنا.
وعندما يصل الأفراد لحالة السلم الداخلي، ستتسع دائرة السلم وتعم المجتمع، وتتسع أكثر عندما نشارك هذا السلام مع المجتمعات الأخرى التي تشاركنا هذا الكوكب، وهذا بلا شك سيساعدنا كبشر على الوصول إلى حالة سلام دائمة تجعلنا قادرين على التعمير والنماء.
السلام المجتمعي..
للسلام في ثقافتنا العربية والإسلامية أهمية كبرى فالسلام أحد أسماء الله الحسنى، وهو التحية التي نبادر بها عندما نلتقي بأي شخص فنقول:" السلام عليكم" وهو بمثابة دعاء بالسلامة من أي مكروه للشخص المقابل، وهذا يخلق حالة من الإطمئنان والسلام النفسي لبدء حوار مع الطرف الآخر.. ولأن السلام عامل مهم في حياة الشعوب فقد أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل من أجل تثقيف الناس والارتقاء بأخلاقهم ليسود السلام ولذلك كل الكتب السماوية تحمل رسالة السلام لكل البشر.
يختلف مفهوم السلام لدى البشر كل حسب رؤيته ، فمن هجرته الحروب يرى السلام في انتهاء الحرب والعودة للديار، والنساء اللاتي يعانين من الهيمنة الذكورية يجدن السلام في تحقيق المساواة بينهن وبين الرجال، ومن يتعرض للإضطهاد والظلم يرى بأن السلام في العدل والمساواة.
ولذلك يمكننا تعريف السلام المجتمعي بأنه حالة التوازن التي تضمن الاستقرار للبشر وتهيئ المناخ الصحي للإبداع والازدهار..لونظرنا للبلدان التي تعاني من الطبقية نجد بأنها بلدان غير مستقرة ويكثر فيها العنف نتيجة للأحقاد والكراهية، والبلدان التي تفتقد للعدل بين مواطنيها وتتعامل على أساس عرقي وطائفي نجدها غارقة في الصراعات الطائفية، وبسبب عدم الاستقرار الناتج عن هذه الصراعات نلاحظ غياب كل أشكال التنمية والتطور في هذه الدول.
حتى يتحقق السلام في المجتمع، لابد من احترام الاختلاف في العرق والمذهب، لابد أن تٌعطى الأقليات حقها في الحياة الكريمة كما الأغلبية.. لابد أن تكون فرص التعليم والعمل متساوية لدى كل أفراد المجتمع وأن تحكمها الكفاءة وليس الواسطة والمحسوبية.. لابد أن يكون سقف العدل عالياً لا تطاله أيدي السلطة وبذلك لا يكون أحد فوق القانون.. لابد أن تكون هناك محاسبة حتى لا تضيع الحقوق، والأهم أن تصبح القيمة البشرية هي الأغلى على الإطلاق وذلك بتفعيل مبادئ حقوق الإنسان، لو تحققت هذه المبادئ سنرى مجتمعات تنعم بالأمن والسلام ، مجتمعات تبني أفراداً متوازنين قادرين على بناء نهضة وسلام.
كيف يمكننا كأفراد الوصول لحالة السلام الداخلي؟!
لابد أن يكون السلام ثقافة لدى الجميع كي يعيشوا في سلام داخلي، وهو الحالة التي تجعل الفرد في حالة تصالح مع نفسه ومن حوله، بمعنى أن يشعر بالرضا عن نفسه وأحواله ويتقبل ظروفه مهما كانت صعبة ويتعايش معها من مبدأ أن يتقبل المرء ما لا يستطيع تغييره، يعترف بأخطائه ويصلحها ويتقبل الأخرين على علاتهم..
حتى نصل للسلام الداخلي علينا أن نتحرر من الماضي، وهنا أقصد التحرر من مساوئ الماضي والنقاط المظلمة في الذاكرة التي تشدنا دائماً إلى الخلف وتسجننا في بؤرة الأحداث المؤلمة..والحل هنا أن نتحلى بفضيلة التسامح، نسامح من أساء لنا يوماً حتى نتخلص من حالة الغضب والحقد، هذا الشعور السلبي المقيت الذي يسمم علاقات البشر..نتحرر من تجاربنا الفاشلة التي تضعنا في حالة تردد وخوف من خوض تجارب جديدة، نتحرر من شعور الضحية الذي أصابنا بسبب استغلال الأخرين لنا..علينا أن نبني أنفسنا على أسس عادلة نحترم فيها ذواتنا وقدراتنا..علينا أن نساعد الأخرين لأن هذا يخلق حالة من الرضا عن أنفسنا ويمنحنا السلام الداخلي.
نحن نعيش في مجتمعات تحملنا الكثير من الأعباء والمسؤوليات وتستنزف طاقاتنا البشرية، وهذا قد يفقدنا القدرة على رؤية جوانب أخرى من الحياة ، فنقصر في بعض الجوانب وبالتالي يختل التوازن اللازم لإحلال السلام الداخلي.. في الحياة جوانب مهمة علينا أن نهتم بها كالأسرة ، كاالإجازات السنوية ، كوصل الأهل والأصدقاء، والأهم عدم تحميل أنفسنا أكثر من طاقتها.
وهنا أود أن أشير إلى عامل خطير بات يهدد السلام النفسي للأفراد وهو ما يسمى بمواقع التواصل الاجتماعي وما نراه على الشاشات من مهازل ما يسمون بمشاهير التواصل الاجتماعي الذين يعرضون حياتهم على العلن ويعيشون بمظاهر بذخ صارخة رغم أن معظمهم لا يملكون أي محتوى يستحق المشاهدة، المشكلة أن كثيرون ممن يملكون الكفاءة والخبرة يعانون من أجل الحصول على لقمة العيش بجهد وتعب أصبحت لديهم حالة من السخط والتذمر على الوضع الذي يعيشونه عندما يقارنون حياتهم بحياة هؤلاء المشاهير، لذلك أرى بأن وسائل التواصل الاجتماعي قد ساهمت كثيراً في غياب السلام الداخلي لدى الكثير من الأفراد ولهذا علينا أن نركز أكثر في العالم الواقعي ولا نجعل من العالم الافتراضي نموذجاً مثالياً فما نراه على الشاشات لا يعكس حقيقة الأشياء.
وألخص وجهة نظري في أننا حتى نصل لسلام دائم، علينا أن نحتكم لضمائرنا وأخلاقنا في تعاملاتنا مع الآخرين، فتأنيب الضمير يسرق هدأة النفس والسلام الداخلي..لنمارس مشاعرنا الإنسانية بتوازن، نفرح ونحزن ، نبكي ونضحك ، نخطئ ونعتذر ، نغضب ونسامح، ونعبر عن هذه المشاعر في وقتها وبتلقائية..
ليكن السلام ثقافة وإسلوب حياة لننعم بمجتمعات يسودها السلام والأمان والحياة الكريمة للجميع..
سلوى حماد