من منا لا يقلب في ألبومات الصور من آن لآخر..من منا لا يهرب من واقعه إلى حديقته الخلفية (ذاكرته) كي يبحث فيها عما خبأه على مدار سنين..من منا لا يغمض عينيه هرباً من الواقع ليستمتع بشريط ذكرياته.. نتذكر بيتنا القديم، رفاق الطفولة، رائحة قهوة شربناها في مكان ما، أغنية سمعناها في مناسبة خاصة..نتذكر نوعاً معيناً من الحلوى كنا نحبها، نتذكر مدرسينا ..نتذكر الكثير من متعلقاتنا التي كنا نعتز بها..نتذكر ألعابنا، حكايات سمعناها ونحن أطفال..كل البشر يشتركون في هذه المشاعر الإنسانية لكن بدرجات متفاوتة..العودة إلى الوراء أو الحنين إلى الماضي هو التعريف الأكثر دقة لمصطلح نوستالجيا.
متى نعيش هذه الحالة الوجدانية؟!
حقيقة ليس كل البشر يعيشون الحنين بنفس الطريقة، غالباً افتقاد الشيئ يشعرنا بالحنين إليه..فكبار السن يكبر لديهم الحنين لأنهم يشعرون بأنهم يعيشون في زمن غير زمنهم، لذلك يشعرون بالسعادة عندما يستحضرون ذكريات الماضي..الغربة التي نفتقد فيها الأقارب وأصدقاء الدراسة تجعلنا نستحضرهم عبر مواقف جمعتنا بهم فنبادر إلى هواتفنا لنكمل الصورة بالحديث إليهم..
من يدخل إلى أي بيت مهاجر سيجد حتماً تذكار من بلده، منحوتة فنية، لوحة ، مطرزات، بعض الأواني الخاصة بتلك البلد، ثوب تراثي يحرص على ارتدائه في أي مناسبة جماعية ..لماذا نفعل ذلك بالغربة، الإجابة إنه الحنين لذلك الوطن بكل تفاصيله وإحساسنا بافتقاد كل هذه التفاصيل يجعلنا نحمل ما يمكن حمله ليرافقنا في رحلة الاغتراب حتى يكون معنا في لحظات الحنين.
لا يقتصر الحنين فقط للأشياء، أحياناً يصيبنا الحنين لملامحنا في مراحل عمرنا المختلفة، نبتهج عند رؤية كل صورة، ونضحك عالياً على من أوضاعنا وملابسنا في تلك الصور ونعود بذاكرتنا إلى كل الأماكن التي كبرنا فيها..
أحياناً أغنية ، عمل درامي، أو لوحة فنية تذكرنا بحدث معين..أتذكر عندما كنت في الجامعة في أواخر السبعينيات سمعت أغنية "عا هدير البوسطة" للرائعة فيروز لأول مرة في الحافلة التي كانت تقلني إلى الجامعة ومازلت حتى هذ اللحظة عندما أستمع لهذه الأغنية أنتقل إلى ذلك الزمن وتحديداً إلى تلك الرحلة من السكن وحتى الجامعة وأشعر بسعادة عارمة لهذه اللحظات الهاربة من التاريخ لتمنحني الشعور بالدفء والسعادة.
هناك روائح تسكن الذاكرة ..أتذكر رائحة خبز أمي، ومن منا لم يعش هذا الشعور الجميل حتى الراحل محمود درويش قال: " أحن إلى خبزأمي ووقهوة أمي ولمسة أمي"، أتذكر رائحة التوباكو الخاص بالبايب الذي كان يستخدمه والدي.. أحن للفافة الجرائد والمجلات التي كان والدي رحمه الله يحضرها ، ولازالت العنواين ساكنة ذاكرتي، مجلة العربي، آخر ساعة ، صباح الخير، روزاليوسف ومازالت رائحة تلك المطبوعات تسري في ذاكرتي، مجرد رؤية إحدى هذه المجلات تجعلني في حالة وجدانية جيدة وتعيدني إلى تلك الأيام.
أحن للحياة الجامعية بتحدياتها ، أحن للمة العائلة خاصة في ليالي الشتاء الباردة، أحن لذلك الركن الهادئ في الكافيه الذي كنت أتناول فيه إفطاري في منتريال ومازالت رائحة القهوة بنكهة البندق تطرق رأسي بقوة وتعيدني إلى تلك الأيام الأولى في كندا..
لماذا يحن معظمنا للماضي ؟!!
حقيقة أن الإحباطات التي يمر بها البشر في الواقع وكثرة المتغيرات أدت إلى حالة من التشتت وعدم الاستقرار النفسي لدى معظم البشر..صحيح أن التغيير سنة الحياة ولكن في ظل تسارع غير عادي أصبحنا كبشر غير قادرين على استيعاب هذا التحديث اليومي في نمط حياتنا ونشعر بأننا دائماً في حالة لهاث من أجل كل شيئ ، تعليم ، عمل، حياة أفضل، وفي ظل هذا اللهاث تتساقط صوراً جميلة كانت من أهم مميزات الماضي.
النوستالجيا هي حالة الحنين التي تسرقنا ولو للحظات من حاضرنا لنعيش في الماضي ونستمتع بتفاصيله، هي حالة الهروب التي نلجأ لها ربما اعتراضاً على المتغيرات المتسارعة التي غيرت ملامح إرثنا الإنساني، أو ربما محاولة للحصول على بعض الراحة النفسية التي نفتقدها في ظل الركض في معترك الحياة والصراع من أجل الوصول لأهدافنا، نهرب لننعم بحالة الهدوء التي كنا ننعم بها في طفولتنا حيث لا مسؤوليات ولا خوف ولا قلق..
لماذا دائماً نعقد مقارنة ما بين الماضي والحاضر؟ وهل هذه المقارنات عادلة؟!
كثيراً ما نردد هذه الجمل: أيام الزمن الجميل..الأشياء فقدت طعمها..الأخلاق تغيرت ..المبادئ تجزأت.. الأذواق تغيرت ، المشاعر..الناس..كل شيئ تغير..يا ترى هل الزمن الماضي كان نموذجياً أكثر من زمننا هذا؟
بالتأكيد لا، فالبشر هم البشر وإن غيرتهم الظروف بعض الشيئ، لكن الصفات البشرية السيئة والحميدة موجودة في كل الأزمنة، ولذلك فالمشاكل موجودة أيضاً في الزمن الماضي كما الزمن الحاضر، ولكن في رحلة الحنين غالباً ما نقوم بعمل فلترة لمخزون الذكريات وننتقي ما يسعدنا ويشبع حالة الحنين لدينا ولذلك أجد أن المقارنة غير عادلة بالمطلق.
لا شك بأن الدراما التلفزيونية والسينمائية كان لها دوراً كبيراً في رسم حياة نموذجية للماضي ، وأصبحت تلك الصور مطبوعة في أذهاننا ولكن ليس بالضرورة أن تكون الدراما دائماً صادقة في نقل الواقع ، ولو تابعنا الدراما في الحاضر سنجد بأنها تنقل فقط جزءً من الواقع وليس كل الصورة.
النوستالجيا لا تقتصر فقط على الحالة النفسية للأفراد، بل أصبحنا نراها في عالم السياسة، وفي الدعايات الانتخابية، ولا ننسى شعار دونالد ترامب في دعايته الانتخابية عندما كان يقول"اعيدوا أمريكا عظيمة كما كانت" وتأثير هذه الجملة على الوعي الجمعي الأمريكي، إذ أن الشعوب في ظل المعاناة في العصر الحديث تقارن الحياة في الماضي، حيث كانت أقل تعقيداً ولذلك كانت المشاكل مختلفة عما نراه اليوم.
هناك أيضاً النوستالجيا للرموز الإنسانية التي كان لها دوراً حيوياً في التاريخ، كالقادة العظام اللذين كان لهم بصمات تاريخية واضحة وأصبحوا الأن ملهمين للثوار في العالم الذين يحلمون بإعادة تاريخهم في الحاضر.
لا شك بأن حالة الحنين محفزة جداً للإبداع، وكثير من الأعمال الإبداعية الادبية والفنية كانت بسبب حالة حنين لأحداث في الماضي..فالشعراء والكتاب يكتبون دائماً عن أحداثاً مروا بها وتركت بهم أثراً عاطفياً وإنسانياً، أما الرسامين فهم يوثقون بريشتهم حالة حنين لأماكن زاروها أو وجوه قابلوها في رحلة الحياة.
وهنا تحضرني مقولات للراحل محمود درويش:
" لولا الحنين إلى جنة غابرة لما كان شعر ولا ذاكرة ولما كان للأبدية معنى العزاء"
من الطبيعي أن نشعر بالسعادة والأمان من خلال استحضار ذكريات الماضي لأننا نتذكر وجوهاً ألفناها بيننا وبينها تاريخ إنساني، ونتذكر رَوَائِح تعودنا عليها، وأحداثاً كنا طرفاً فيها، وَرِوَايَات قرأناها وعشنا أحداثها في الخيال بين سطورها..
يا ترى هل للنوستالجيا سلبيات؟
لكل شيئ سلبيات وإيجابيات، ولذلك فإن النوستالجيا كما لها إيجابيات كتخفيف حدة التوتر والشعور بالاغتراب فلها سلبيات عندما نغرق فيها وننفصل بسببها عن الحياة الواقعية، ويحضرني في هذا السياق ما قاله الراحل محمود درويش عن الحنين:
"للحنين أعراض جانبية من بينها : إدمان الخيال ، النظر إلى الوراء ، والإفراط في تحويل الحاضر إلى ماض"
تذكر الماضي شيئ جميل لكن لنتعلم منه وليس لنعيش فيه.
أؤمن بأن الاعتدال في كل شيء يضمن للإنسان حالة من التوازن تمكنه من الاستمتاع بحاضره والتأثيث لمستقبله، فالعيش في الماضي يجعل الفرد عاجزاً عن مواجهة تحديات الواقع وصنع أي إنجاز أو حتى تحديد أهدافه المستقبلية والتخطيط لها..
وهنا أقتبس ما قاله الراحل د. إبراهيم الفقي: " إن كل يوم تعيشه هو نعمة من الله ، فلا تضيعه في الحسرة على الماضي أو بالقلق من المستقبل" .. وفي نفس السياق يقول برتراند راسل في كتابه الفوز بالسعادة" أن السعادة ليست هروباً من الواقع ومآسيه وإنما التحرر من تأثيره فينا وسيطرته علينا".
عيشوا حالة النوستالجيا واستمتعوا بذكرياتكم الجميلة لكن لا تسترسلوا في هذا الشعور المخدر ولا تستسلموا لمشاعر الحنين حتى تتقبلوا الواقع بكل تحدياته، خذوا من الماضي عبرة وعظة، خذوا منه خبرة تعينكم لتجاوز أي عقبات في الحاضر، وتلهمكم برؤية واضحة تمكنكم من رسم خارطة طريق تأخذكم بسلام إلى مجاهل المستقبل..
كونوا بخير في واقع جميل تطرزونه بأحلامكم وإنجازاتكم وتنعمون فيه بالرضا والسعادة وراحة البال.
سلوى حماد
.