في الثامن والعشرين من شهر آب المنصرم، عُقدت في العاصمة العراقية بغداد قمة جمعت الى جانب رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي، رؤساء فرنسا ومصر وملك الأردن وأمير دولة قطر، وقد تمثلت الكويت والإمارات العربية المتحدة برئيس وزراء كل منهما، كما حضرت كل من تركيا وإيران والسعودية ممثلة بوزير خارجيتها. هذه القمة، التي تَشارَك في تنظيمها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، كانت الغاية منها تنقية الأجواء الملبدة بالخلافات بين دول منطقة الشرق الأوسط، والسعي الى إيجاد حلول لحرب اليمن، ومعالجة الأوضاع السياسية والإقتصادية المتأزمة جدا في لبنان، الى جانب أزمة المياه التي تعانيها المنطقة عموماً.
الدوافع الأساسية لتنظيم هذه القمة من قبل فرنسا والعراق كانت، من الجانب الفرنسي، سعي الرئيس ماكرون الى لعب دور متزايد قد يؤدي الى نتائج إيجابية في المنطقة بعد فشله في حلحلة الأزمة السياسية في لبنان رغم زيارتين قام بهما الى هذا البلد بُعيد تفجير مرفأ بيروت واجتماعات عقدها مع جميع قادة الأحزاب والتيارات السياسية، ورغبته في تعزيز دور بلاده بعد أن تراجع بعض الشيء داخل الإتحاد الأوروبي، وكذلك تعزيز الدور العراقي في المنطقة على حساب التوسع الإيراني عبر دعم رئيس الحكومة العراقية الكاظمي الذي أثبت قدرته على الحكم بعيداً عن التجاذبات الطائفية والإقليمية كما قام بدور فعّال في تنظيم لقاءات في بغداد بين السعودية وإيران لتخفيف النزاعات القائمة بينهما، والرئيس ماكرون ربما يأمل أيضاً أن ينعكس نجاحه المحتمل في هذه القمة على زيادة حظوظه في الإنتخابات الرئاسية التي ستبدأ في نيسان من العام المقبل في ظل تراجع التأييد له في الداخل الفرنسي.
أما من الجانب العراقي، فإن الرئيس الكاظمي يأمل من هذه القمة أن تعزّز مكانة العراق في المنطقة، وتخفّف بعض الشيء من التجاذبات الإيرانية-السعودية التي تتفاعل داخل العراق، وأن تقوّي حظوظه في الإنتخابات التي ستحصل الشهر المقبل.
وبالرغم من ان هذه القمة لم تسجل خروقات دبلوماسية تذكر، وهذا الأمر كان متوقعاً، إلاّ أن نتائجها ستظهر في المستقبل القريب على أكثر من صعيد.
أولاً: على صعيد العلاقات المصرية القطرية
شهدت العلاقات المصرية القطرية تأزماً قوياً منذ العام 2013 على أثر الثورة التي أطاحت الرئيس المصري محمد مرسي واتهام مصر لقطر بدعم «الإخوان المسلمين»، ما أدّى لاحقاً الى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 2017، ولم تعد هذه العلاقات إلاّ في مطلع السنة الحالية، وقد حصلت بعض اللقاءات على مستويات مختلفة بما فيها وزراء الخارجية، إلاّ أن اللقاء الذي حصل بين الرئيس المصري وأمير دولة قطر على هامش اجتماعات قمة بغداد وضع حداً للخلاف، وأعاد العلاقات الثنائية إلى سابق عهدها من التآلف والتعاون بين الدولتين، ويشكّل ذلك بحد ذاته تطوراً إيجابياً ونتيجة مهمة لقمة بغداد.
ثانياً: على صعيد السعودية وإيران
مع أنه لم يعقد أي لقاء جانبي ثنائي بين وزيري المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية، إلا أن وجودهما في قاعة الإجتماعات ومشاركاتهما في النقاشات بطرق إيجابية من شأنها أن تخفّف من أجواء الإحتقان القائمة بين البلدين على خلفية حرب اليمن. وقد سبق للعراق أن ساهم في تحقيق تحسن نسبي لهذه العلاقات عندما استضاف لقاءات منذ شهر نيسان المنصرم لموظفين كباراً من كلا البلدين، وقد صرح وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في نهاية أعمال القمة أنّ «الطرفين أبديا رغبة كبيرة للوصول الى نتائج إيجابية لحل المشاكل العالقة بين البلدين». وقد أكدت إيران استعدادها لجولة رابعة من المفاوضات مع السعودية بعد ان تنتهي من تشكيل الحكومة الجديدة.
ويرى البعض أنه في حال نجاح هذه اللقاءات الثنائية بين السعودية وإيران، يصبح من الممكن إنهاء حرب اليمن التي هي الآن في عامها السابع مع ما خلّفته من خسائر فادحة في الأرواح وفي اقتصاد اليمن الذي هو أصلاً أحد أفقر دول العالم، كما أن من شأنها، في حال نجاحها، تخفيف النزاعات السنية-الشيعية في المنطقة، وتكون قمة بغداد قد ساهمت في هذه التطورات الإيجابية.
ثالثا: على صعيد إيران ودول الخليج
لقد شهدت قمة بغداد أيضاً لقاءات بين وزير خارجية إيران حسين أميرعبداللهيان ونظرائه من كل من الكويت والإمارات العربية المتحدة، وفي ذلك مؤشر واضح على أن إيران، في ظل رئاسة ابراهيم رئيسي، تود تحسين العلاقات المتوترة منذ فترة مع دول الخليج، خصوصاً أن الرئيس الإيراني الجديد، الذي وصِف بالمتشدد منذ بداية حملته الإنتخابية، يستطيع أن يتخذ مواقف منفتحة مع الدول المتخاصمة مع إيران، من دون أن يخشى مزايدات او انتقادات، خلافاً للإدارة الإيرانية السابقة التي كانت موصوفة بالإعتدال، والتي كانت تتعرض لانتقادات قوية من المتشددين كلما حاولت القيام بأي تقارب مع دول الخليج، إذ كان المتشددون يتهمونها بالضعف وبالتساهل مع أخصام الدولة الإسلامية.
رابعا: على صعيد العلاقات في ما بين دول مجلس التعاون الخليجي
بدأ خلاف قوي داخل هذه الدول عام 2014 عندما اتهمت السعودية والإمارات والبحرين دولة قطر بدعم حركات المعارضة في هذه الدول الثلاث وتمويل جماعة الإخوان المسلمين، فسحبت هذه الدول سفراءها من الدوحة، ثم اشتد هذا الخلاف وتطور الى قطع العلاقات الدبلوماسية والإقتصادية مع قطر، ما أدى إلى تقارب قطر مع كل من تركيا وإيران وازدياد الخلاف بينها وبين سائر دول مجلس التعاون الخليجي. في مطلع العام الحالي، حصل بعض الحلحلة بعد تدخل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في نهاية ولايته وانطلاقاً من استعداد المملكة السعودية للتعاطي مع رئاسة جو بايدن الذي كان انتقد المملكة وولي عهدها في حملته الإنتخابية على أثر مقتل الخاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول، فقررت المملكة وحلفاؤها في مجلس التعاون الخليجي رأب الصدع داخل المجلس، ودعت قطر للمشاركة في قمة دول مجلس التعاون المنعقد في محافظة العلا في السعودية حيث تم مبدئياً وظاهرياً إنهاء الخلاف مع الدوحة، إلا أن عدم التطرق مباشرة لمعالجة أسباب الخلاف مع دولة قطر ربما أبقى رواسب سلبية في العلاقات بين قطر وسائر الدول الخليجية. وقد جاءت قمة بغداد لتعيد العلاقات الطبيعية فيما بين هذه الدول، خاصة بعد اللقاء الناجح الذي حصل على هامش القمة بين رئيس وزراء دولة الإمارات الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن راشد آل ثاني. وبذلك يمكن القول ان إحدى نتائج قمة بغداد الإيجابية كانت تحقيق التقارب بين دولة قطر وسائر دول مجلس التعاون الخليجي، وهذا من شأنه تأمين بعض الإستقرار في المنطقة، وفي ذلك نجاح واضح للدبلوماسية العراقية بقيادة رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي.
خامسا: على صعيد التدخل الإيراني في العراق
معروف أن إيران، منذ فترة، تؤدي دورا قويا في الحياة السياسية العراقية، وذلك بواسطة حلفاء عراقيين لها مثلما يحصل في لبنان مع «حزب الله»، ولكن يبدو أن القمة أعطت زخما قويا لرئيس الحكومة العراقية المعروف بتصميمه على تحرير العراق من التدخلات الخارجية على أرضه، ومن الصراعات الدائرة بين ايران والسعودية داخل العراق، ولا شك أن إحدى نتائج قمة بغداد ستكون الحد بعض الشيء من النفوذ الإيراني في العراق، وزيادة حظوظ الكاظمي في الفوز في الإنتخابات التي ستجري في 10 تشرين الأول القادم، وفي حال فوزه في هذه الإنتخابات، فإنه من دون شك سيمضي قُدماً في مساعيه لتحرير العراق من التدخلات الخارجية، وسيسعى الى إعطاء العراق دورا متجددا في السياسة الإقليمية، وسيكون ذلك طبعا على حساب التوسع الإيراني في المنطقة.
سادسا: على صعيد سوريا
إن عدم دعوة سوريا للمشاركة في هذه القمة الإقليمية، ربما بضغوط أميركية، من شأنه أن يزيد من عزلتها في المنطقة ويعزز موقع وشأن العراق فيها، وقد يكون قرار الولايات المتحدة المستمر بعزل نظام الرئيس الأسد ناجم عن رغبتها في وضع حد لخطوات الإنفتاح التي باشرت باتخاذها بعض دول الخليج مع سوريا، وإبقاء الحصار على النظام السوري والتذكير بقانون قيصر الذي يضع عقوبات على الدول التي تقيم علاقات اقتصادية وتجارية معه، وما البيان الصادر عن البيت الأبيض من تأييد لقمة بغداد بعد انتهاء أعمالها سوى تأكيد على دعم العراق ورئيس حكومته المقرب من الولايات المتحدة والذي زار واشنطن وعقد لقاء في البيت الأبيض مع الرئيس الأميركي جو بايدن في 26 تموز المنصرم، وهذا التأييد الأميركي للعراق يأتي طبعا على حساب سوريا ودورها في المنطقة.
سابعا: على صعيد لبنان
قمة بغداد لم تتخذ قرارات حاسمة لمساعدة لبنان، بل اكتفت بعض الوفود بالتعبير، في خلال الإجتماعات، عن التمنيات بأن تحل الأزمة اللبنانية، ويتم تشكيل حكومة لبنانية قريبا، لتمكين لبنان من البدء بالتفاوض مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والدول الداعمة للبنان لمساعدته ماليا واقتصاديا وإيقاف التدهور المستمر الذي أوصل أكثر من نصف شعب لبنان الى درجة الفقر. إلا أن نجاح القمة في استمرار الحوار السعودي الإيراني، وإمكانية وصول هاتين الدولتين لاحقاً الى حل الخلافات القائمة بينهما، قد ينعكس إيجابا على الساحة اللبنانية عبر تخفيف الإحتقان السني-الشيعي وما يخلقه من صعوبات سياسية في لبنان، ويشكل مدخلا لحل العديد من المشكلات اللبنانية انطلاقا من الإنفراج الذي قد يحصل بانتهاء الخلافات السعودية-الإيرانية وانعكاساتها على لبنان.
في الختام، يمكن القول باختصار ان قمة بغداد أعطت زخماً للعراق وعزّزت دوره الدبلوماسي في المنطقة، كما أنها عزّزت موقع رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وحظوظ فوزه في الإنتخابات المقبلة، وأعادت لفرنسا ورئيسها دوراً في المنطقة بتأييد أميركي من إدارة الرئيس بايدن، وأوجدت انفراجاً واضحاً في العلاقات الخليجية-الخليجية وفي العلاقات المصرية-القطرية، وأعطت بعض الدور السياسي والدبلوماسي للأردن في المنطقة عبر احتمال ظهور تحالف استراتيجي مصري-أردني-عراقي من شأنه إفادة الأردن أيضاً اقتصادياً في حال تحقيق هذا التحالف، أما بالنسبة الى لبنان، فإن نتائجها الإيجابية لن تظهر في القريب العاجل على ما يبدو.