الهجرة ظاهرة قديمة يمارسها البشر منذ القدم ولها أسبابها وحيثياتها وهي بلا شك ساهمت في عملية التلاقح الحضاري والانفتاح على الآخر..لكن هناك أيضاً شق سلبي في الهجرة وهو الصدمة التي تحدث للمهاجرين بسبب الاختلاف الحضاري نتيجة للانتقال من بيئة لأخرى.. هذه الصدمة يمتصها الأشخاص بدرجات متفاوتة، فهناك من يتجاوزها بسرعة ويندمج مع المتغيرات بسهولة، وهناك من يحتاج لفترة انتقالية طويلة كي يستوعب كم المتغيرات ويتأقلم معها..
ربما يختلف الأمر عند الأشخاص ممن اتخذوا قرار الهجرة بعد دراسة طويلة، شخصياً مررت بهذه التجربة عندما فكرنا في موضوع الهجرة ، قمنا بزيارة لكندا وتجولنا في عدة مقاطعات قبل اتخاذ قرار الهجرة وهذا كان له تأثيراً إيجابياً علينا وتجاوزنا صدمة التغيير بسهولة وفي فترة قصيرة..لكن هناك من اضطرته ظروف الحرب إلى الهجرة القسرية، وهؤلاء تكون صدمتهم نتيجة للنقلة المفاجئة من بيئة إلى أخرى أكبر.
اليوم سأتناول موضوع المرأة العربية في المهجر والتحديات التي تواجهها وكيفية استيعابها لصدمة التغيير..ولإيصال فكرتي سأصنف أنماط المرأة العربية في المهجر كالتالي:
هناك فئة النساء اللاتي هاجرن برفقة أزواجهن وشاركن في قرار الهجرة، هذا الفئة تقبلت المتغيرات الجديدة واتخذت الطريق الوسط وهو التوفيق بين الثقافة الموروثة والواقع المعاش في الوطن الجديد بمعنى الانفتاح على الإيجابيات في بلد المهجر ودمجها في الثقافة العربية والاستفادة منها..هذه الفئة تتصرف بعقلانية لذلك فهي قادرة على تجاوز العقبات بالحلول وذلك عن طريق التعليم وتطوير الذات، وقد استطاعت النساء من هذه الفئة أن تطور نفسها وتثبت وجودها وأن تحقق التوازن الثقافي والاجتماعي لأسرتها وطبعاً بمساعدة الزوج..
وهناك من اتخذ زوجها قرار الهجرة منفرداً ووجدت نفسها مجبرة على مرافقته لعالم مجهول ، هذه الفئة قد تصاب بصدمة كبيرة نتيجة لهذه النقلة غير المدروسة مسبقاً من قبلها، وعادة ما تصاب بحالة من الاكتئاب والانطواء على نفسها نتيجة للبعد عن الأهل والبيئة التي ترعرت فيها واختارت أن تبقى زوجة تقليدية جٌل اهتمامها منصب على إدارة منزلها وتربية الأبناء..
وهناك فئة من النساء كانت صدمة التغيير من نوع آخرأفقدتهن توازنهن فانسلخن عن هويتهن وانقلبن على الموروث الثقافي والاجتماعي الذي جئن به، والنتيجة الانفتاح غير المدروس على ثقافة المجتمع الجديد.. هذه الفئة تؤمن بأن الخروج من الخارطة العربية وفي ظل غياب الرقابة الأسرية يسمح لها بممارسة حريتها ومطلبها الأساسي هو الخروج من عباءة الرجل والمنادة بحرية مطلقة لا يتقبلها الرجل متناسية بأن المرأة والرجل ليس ندان ولكنهما يكملان بعضهما البعض في ظل اختلافات في التركيبة الفسيولوجية والفكرية والعاطفية تمنح لكل منهما مميزات خاصة.
هناك نساء اخترن الهجرة بقرار منفرد من أجل التعليم أو العمل وهرباً من ظروف اجتماعية قاسية ، هذه الفئة من النساء تتأقلم بسرعة مع المتغيرات في المجتمع الجديد وتنخرط بشجاعة وتحدِ في النظام العام رغم الصعوبات من أجل الحصول على مكتسبات علمية ومادية، والنتيجة نجاح عملي ومكاسب مادية على حساب الحياة التقليدية للمرأة العربية التي تهتم بتكوين الأسرة بالدرجة الأولى.
هناك تحدِ لا يمكن الاستهانة به وهو حاجز اللغة والذي يؤثر تاثيراً مباشراً على اندماج المرأة المهاجرة وتفاعلها مع المجتمع الجديد، ولذلك حرصت كندا على توفير مراكز متعددة لتعليم اللغة للوافدين الجدد وكثير من السيدات استفدن من هذه الخدمة وتعلمن اللغة وأكملن دراستهن، لكن هناك العديد من ربات البيوت فضلن البقاء في البيت واصبح تواصلهن محصوراً مع أفراد من الجالية العربية ممن يتحدثون نفس اللغة ، ولذلك تبقى هذه الفئة منعزلة عن المجتمع ولا تساهم فيه بأي حال من الأحوال، وهذا له أيضاً مردود سلبي على تفهم ما يمر به الأبناء نتيجة لاختلاطهم بأنماط مختلفة خارج المنزل..
نأتي إلى تحدِ آخر له خصوصية دينية وهو صراع المرأة المسلمة من أجل الإبقاء على زيها الإسلامي بحيث لا يتعارض مع اندماجها في المجتمع وحصولها على مناصب تتناسب مع كفاءاتها العلمية، لا شك بأن هذا أمر ليس سهلاً فهناك أفراد من ذوي النظرة الثقافية الضيقة ممن لا يتقبلون مظاهر الاختلاف مع الآخر، ولهذا من الطبيعي أن تواجه المرأة المحجبة بعض المضايقات على المستوى الفردي لكن هذه الظاهرة غير مقلقة في ظل القانون الكندي الذي يمنح المواطنين على اختلاف أعراقهم ودياناتهم حرية ممارسة طقوسهم الدينية وارتداء ما يناسبهم من أزياء، ولهذا أصبحت المرأة المسلمة أكثر حرية وثقة بنفسها، وبتنا نراها في مناصب مختلفة ، وعلى مقاعد الدراسة في المدارس والجامعات بزيها الإسلامي.
هناك أيضاً تحدِ خاص بالأبناء، فالأم العربية في المهجر تحرص على تربية أبنائها على نمط التربية التقليدية كما تحرص على نقل ثقافتها الموروثة كالعادات والتقاليد والمعتقدات الدينية لأبنائها كما تلقتها هي، لكن في ظل مجتمع يضم في نسيجه العديد من المجموعات الإثنية والمعتقدات الدينية المختلفة تصبح هذه المهمة صعبة لأن التساؤلات ستكون كثيرة نتيجة للاختلافات الكثيرة وتحتاج إلى نضج ووعي من الأم والأب كي تكون الإجابات مقنعة للأبناء..دور الأم هو إحداث التوازن ما بين المتناقضات خارج البيت وداخله عن طريق الحوار العقلاني الذي يشجع على أخذ كل ما هو ايجابي من ثقافة المجتمع الجديد دون الذوبان فيه.
في تقديري أن التحدي الرئيسي الذي تواجهه المرأة العربية في المهجر هو المحافظة على أسرتها وإثبات نفسها بفاعلية في مجتمعها الجديد دون أن الانسلاخ عن ثقافتها الأصلية التي تربت عليها، وبالطبع هذا يتبعه الحفاظ على الموروث الثقافي لدى أفراد أسرتها وترسيخه حتى ينتقل هذا الموروث عبر الأجيال المتعاقبة.
وهذا يأخذنا للصراع الفكري بين المرأة والرجل في المجتمع العربي في المهجر والذي بات يهدد الكيان الأسري، فالرجل يريد أن يمارس سلطته الذكورية والمرأة تريد أن تمارس الحريات المتاحة لها وهذا تحدِ خطير بسبب تأثيره السلبي على الأبناء..وقد سمعنا عن الكثير من المشاكل التي أدت إلى هدم العديد من الأسر العربية في المهجر..فبعض النساء تصرفن بطريقة انتقامية من الرجل نتيجة لتراكمات الهيمنة الذكورية في الماضي مستغلة مساحة الحرية التي تكفلها لها القوانين وغياب الأهل الذين تعودنا أن يكونوا صمام الأمان في حالات الخصام، وبتنا نسمع عن زوجات قمن بسجن أزواجهن بحجج مختلفة منها التعنيف اللفظي أو الجسدي.. أنا ضد أي تعنيف من أي نوع على أي شخص أنثى أو رجل أو طفل، لكن المشاكل الأسرية يجب أن تٌحل في إطار أسري وبطرق ودية حتى لا تكون النتائج كارثية على الأبناء.
أيضاً أصبح العامل المادي عاملاً رئيسياً في تشويه العلاقة بين المرأة وزوجها في المهجر، نسمع عن مشاحنات بسبب معونة الأطفال على سبيل المثال، نسمع عن انفصال من أجل الحصول على معونات اجتماعية..نسمع عن زوجات يطلبن الانفصال بمجرد حصولهن على عمل واستقلالهن مادياً وكأن رباط الزوجية مرتبط بالحاجة المادية فقط ..
اكتشفت بأن عدوالمرأة في المهجر هي المرأة، وهناك سيدات مهمتهن تحريض الأخريات وتشجيعهن على التمرد والاستقواء على أزواجهن، وهذا عادة يحدث من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، التي لا ننكر أهميتها في إيصال المعلومات المفيدة خاصة للقادمين الجدد لكنها أيضاً ساهمت في تشويه فكر بعض السيدات ضعيفات الشخصية وانحراف بوصلتهن وخراب بيوتهن.
ولهذا أنادي بضرورة تثقيف أبناء المجتمع العربي في كندا من قبل مختصين ومستشارين للأسرة، مع التأكيد على ضرورة الاندماج والانفتاح على المجتمع الجديد مع الحفاظ على الهوية العربية، ولأن المرأة العربية تمثل نصف المجتمع العربي في المهجر نتطلع بأن يكون لها دوراً فاعلاً ومهماً في خدمة هذا المجتمع .
ورسالتي للمرأة العربية" أنت رمانة الميزان لأسرتك وحفاظك عليها هو التحدي الأكبر والأهم..فلا تحققي طموحاتك على ركام أسرتك مهما كانت المغريات..قفي بالوسط ما بين موروثك الثقافي ومجتمعك الجديد وامسكي العصا من النصف حتى لا تفقدي التوازن".
سلوى حماد