تتردد على مسامعنا عبر كل وسائل الإعلام كل يوم قصصاً كثيرة عن حالات تحرش جنسي متعددة الأشكال..ولايقتصر فعل التحرش على جنس معين بل هو سلوك شاذ يصيب كل من الرجل والمرأة، لكن عادة عندما نتحدث عن التحرش يتبادر إلى الذهن بأن الجاني هو الرجل والمجني عليه هي المرأة، لكن بحسب الإحصاءات تعتبر المرأة الأكثر عرضة لحالات التحرش يليها الأطفال.
في المجتمعات المحافظة وهي بطبيعة الحال مجتمعات منغلقة يعتبر الحديث في موضوع التحرش من التابوهات ولذلك تخشى الضحية أن تفصح عن تجربتها مع المتحرش خوفاً على سمعتها وعدم تقبل المجتمع للحديث في هذا الموضوع، أو خوفاً من المتحرش نفسه.
في الأشهر الماضية انتشرت قصة متحرش في بداية الأربعينيات قام بالتحرش بطفلة لم تتجاوز السبعة أعوام التقى بها في الشارع وقادها إلى إحدى المباني المجاورة وحاول هتك عرضها لولا وجود كاميرات مراقبة لإحدى المؤسسات في نفس المبنى وتمت محاصرته على الفور من قبل أحد الموظفين في المؤسسة ومنع الفعل الفاضح مع الطفلة ، حدث هذا في إحد الدول العربية وقد أثارت هذه الحادثة الرأي العام لأن الضحية طفلة بريئة والجاني شخص بعيد عن الشبهات، فهو شكلاً يبدو شخصية محترمة ويعمل في شركة جيدة ولديه أطفال في نفس عمرها..تتبعت الحادثة وتطورات القضية ورد فعل الشارع الذي كان قوياً ومتفاعلاً مع الحادثة وطالب الكثيرون بضرورة تغليظ العقوبة على الجاني..
قادتني هذه الحادثة لكتابة هذا المقال والبحث عن أسباب التحرش وتأثيراته النفسية على الضحايا..
التحرش الجنسي متعدد الأشكال والأنواع حسب طبيعة المجتمع وثقافة أفراده، ولا يقتصر فقط على الاعتداء الجسدي المباشر، قد يكون لفظياً أو إيحائياً أيضاً، وهو انتهاك سافر لخصوصية المجني عليهم وتعد سافر على المساحة المسموح بها بين الأفراد والتي يفرضها العرف والدين والقانون..
يتفنن المتحرشون في إستحداث طرق للتنفيس عن الخلل النفسي الذي يجعلهم يتصرفون على هذا النحو، فهناك على سبيل المثال من يقترب من الضحية بطريقة مقززة في المواصلات العامة، وهناك من يستخدم نظراته الإيحائية أو لغة الجسد لإثارة الضحية، وأخرون من يستخدمون بذاءة اللسان فيعبرون عن هوسهم بكلمات مثيرة ونكات خادشة للحياء، وهناك من يتتبعون الضحية من مكان لمكان ويرهبونها، وهناك من يهدد وأخرون يلجأون إلى إسلوب الترغيب والإغراء..
كل هذا ممكن أن يحصل في الشارع وتكون ردة الفعل وقتية وينتهي الأمر عند هذا الحد ويكون الأذى النفسي محدود طالما إنه لم يصل إلى حد الاغتصاب، لكن المشكلة لو كان فعل التحرش في مكان عمل أو دراسة أو في البيت على اعتبار أن هذه الأماكن المفترض فيها إنها أماكن آمنة، هنا تصبح الأمور أكثر تعقيداً، وأثارها السلبية على نفسية الضحية أكثر خطورة وتصاب الضحية بصدمة كبيرة قد ينتج عنها خللاً نفسياً من الصعب علاجه.
من هو الشخص المتحرش وما الأسباب التي جعلته يصبح متحرشاً؟!
يمكننا تعريف المتحرش على إنه إنسان لديه إضطرابات نفسية وإحساس بالنقص وعدم احترام للذات بغض النظر عن عمره أو مستواه الاجتماعي أو الثقافي، قد يستغل هذا الشخص منصبه أو وضعه المادي أو غياب الرقابة للاعتداء على حرية شخص أخر لإرضاء رغباته الجنسية، وقد يكون سبب الخلل السلوكي للمتحرش نتيجة لإهمال الأبوين له في طفولته بسبب التفكك الأسري وعدم حصوله على التربية السليمة، أو قد يكون قد تعرض لحادثة تحرش أو اغتصاب ولدت لديه حالة من السخط على البشر ولذلك يتجه للانتقام بنفس الطريقة..وهناك أسباب اجتماعية كالتمييز بين الذكور والأناث وإعطاء الذكر الحرية في كل شيئ ، ولذلك تجد بعض الذكور المنفلتين في هذه المجتمعات يستغلون هذا في التحرش بالنساء وهم واثقون بأن أحد لن يجرؤ على التعرض لهم، لذلك لو تحرش أحدهم بفتاة لن تجرؤ على الإفصاح عما حصل لها..وتكثر الظاهرة أيضا بسبب البطالة بين الشباب وعدم قدرتهم على الزواج فينفسون عن شهواتهم من خلال التحرش بالإناث أو الأطفال.. ومع الانفتاح على الشبكة العنكبوتية وسهولة الوصول للمواقع الإباحية يكثر الإنحلال الأخلاقي والهوس الجنسي بين أفراد المجتمع الذين لديهم استعداد للانحراف..وهنا لا أعفي الأناث من المسؤولية خاصة من يتصرفن بابتذال في الملبس والسلوك ، قد يعترض البعض على أساس أن هذا حرية شخصية، لكنني لست مع هذا الطرح، فاحترام القيم المجتمعية واجب على كل أفراد المجتمع ذكوراً وإناثاً على حد السواء حتى لا تنفلت الأمور ويصبح المجتمع في حالة فوضى أخلاقية وعندها سيفعل كل فرد ما يحلو له دون مراعاة للذوق العام ومساحة الحرية المسموح بها أخلاقياً.
إحدى زميلات العمل قررت أن تكمل دراساتها العليا وتحصلت على قبول في إحدى الجامعات العربية لكنها للأسف في منتصف الطريق توقفت بسبب المشرف على رسالة الدكتوراة الذي استغل منصبه الأكاديمي وتحرش بها لفظياً ونبهته لكنه لم يرتدع، وتطور الأمر وتحرش بها جسدياً وعندما اعترضت على تصرفاته وهددت بفضحه أخبرها بأنها ستكون الخاسرة وعليها أن تنسى حلمها بالدكتوراة مالم تقبل ما يريد، فتخلت عن حلمها وتوقفت عن الدراسة..
سيدة أرملة خرجت للعمل من أجل إعالة أبنائها الأيتام، ووجدت عملاً مناسباً في مجال تخصصها ولأنها جميلة كانت محط اهتمام من مسؤولها في العمل، الذي استغل حاجتها المادية وبدأ يتقرب لها بها فقام بترقيتها ونقلها للعمل بمنصب ملحق بمكتبه حتى تكون قريبة منه، فظنت بأنه يريد مساعدتها بسبب ظروفها لكن بمرور الوقت بدأ يتحرش بها لفظياً وتطور الأمر للتحرش بها جسدياً فاضطرت لترك العمل رغم حاجتها الملحة له.
ولأن ضحايا التحرش ليسوا فقط من النساء فهناك العديد من الذكور قد تم التحرش بهم من قبل سيدات، ربما يبدو هذا الأمر غريباً وغير شائع ، فهناك من تستغل العاملين لديها جسدياً مقابل لقمة العيش ، إحدى سيدات الأعمال التي استغلت حاجة أحد الشباب العاملين في شركتها للعمل، استدرجته بالترقية وإغداق المال ثم طالبته بتلبية رغباتها الجسدية وعندما أراد الانسحاب هددته بمستندات تحمل توقيعه فاضطر تحت التهديد والخوف من السجن أن يلبي ما تريد.
والقصة التي صدمتني حقيقة هو تحرش رجل في الستينيات من عمره بزوجة إبنه الشابة التي تصغره بأربعين عاماً وعندما شكته لزوجها لم يصدقها فطلبت الطلاق خوفاً على نفسها من تكرار محاولات والد زوجها معها خاصة وأن زوجها تضطره ظروف العمل للسفر.
الأن لم يعد التحرش مقصوراً على حالات فردية بل تطور الأمر لتصبح ظاهرة جماعية، منذ فترة انشغل الرأي العام في إحدى الدول العربية بحادثة تحرش جماعي، حيث قام مجموعة من الشباب من التجمهر حول مجموعة من الفتيات وترويعهن والاقتراب منهن ولمسهن بطريقة مخالفة لكل الأعراف والقوانين والأخلاق مما أثار سخط وغضب الناس وأصبحت قضية رأي عام..
التحرش بالأطفال:
وهو التحرش الأكثر إيلاماً لأن الأطفال لا حول لهم ولا قوة ، لا أدري كيف يمكن لشخص بالغ عاقل أن تقوده شهوته للاعتداء على طفل أو طفلة في عمر البراءة، لا أعتقد بأن شخص بكامل قواه العقلية يقدر على هذا الفعل المشين.
وفي ظل تنامي ظاهرة التحرش الجنسي بالأطفال والتي نتج عنها حوادث مروعة عمد فيها الجناة إلى التخلص من الأطفال بعد اغتصابهم عن طريق قتلهم حتى لا ينكشف أمرهم، أصبح هذا الأمر بمثابة كابوس يؤرق الأهالي وتعالت الأصوات للمطالبة بتغليظ العقوبة على الجناة لأنها الرادع الوحيد لهؤلاء العابثين.
كيف يمكن لطفل بريء أن يتفهم ما يحصل معه وكيف يتعامل مع وحش بشري يعبث في جسده الغض؟! وكيف يتعامل أهل الضحية مع طفلهم بعد الحادثة ، وكيف يساعدونه حتى يتجاوز هذه التجربة السيئة بحيث لا تتسبب في إحداث خللاً في تركيبته النفسية..
تساؤلات كثيرة أهمها كيف نحمي الأطفال من التحرش؟
حماية الأطفال تبدأ بالتوعية من الأهل، لذلك عليهم إيجاد الطرق المناسبة لتوضيح بعض الأساسيات لأطفالهم وتوضيح المناطق الحساسة التي لا يسمح لأي إنسان أن يلمسها مهما كان مقرباً ، كما يجب تنبيه الأطفال إلى ضرورة عدم خلع ملابسهم أمام الأغراب خارج المنزل، يجب أن يشعر الطفل بأن الأهل هم الحماية حتى يلجأ لهم في أي مشكلة لذلك بناء الثقة بين الطفل والعائلة أمر مهم جداً ، ويجب أن يتابع الأهالي أبنائهم حتى يلاحظوا أي تغيير في سلوكياتهم وأن يهتموا بأي شكوى من الطفل، لأن الطفل لو تعرض للتحرش ستتغير سلوكياته ، قد ينطوي على نفسه، أو يتغير مزاجه ويصبح عصبياً ودائم الصراخ، وقد يصابوا بحالة التبول اللاإرادي..لذلك مراقبة الأطفال مهم جداً.
من المهم ضرورة تعليم الأطفال مبادئ الدفاع عن النفس وعدم الاستسلام لأي متحرش عن طريق الصراخ وطلب النجدة أو الهروب، أيضاً يجب أن إفهامهم ضرورة عدم التحدث إلى الغرباء أو الذهاب معهم إلى أي مكان مهما كانت المغريات.. كما يجب عدم السماح بسياسة الغرف المغلقة عند تجمع الأبناء مع أصدقائهم أو أقاربهم في المنزل.
على الأهالي عدم الثقة في أي شخص وترك الطفل معه لوحده مالم يكونوا متأكدين من أخلاق هذا الشخص وإنه لا يقيم وحده حتى لو كان مقرباً من العائلة أو أحد أفرادها، فهناك أطفال تم التحرش بهم من قبل أقاربهم، مدرسيهم الخصوصين، ومدربيهم في النوادي الرياضية، وخدم المنازل..ففي ظل غياب الرقابة يجد ضعاف النفوس فرصة للعبث.
وفي حال كان المتحرش من محيط الأسرة أي من أحد الأقارب، يجب أن تقطع العلاقة فوراً معه مهما كانت صلة القرابة وإبعاده نهائياً عن الطفل حتى لا يظل تحت التهديد، وعدم التكتم على الموضوع ومعاقبة الجاني حتى لا تتكرر محاولاته مع آخرين.
الموضوع كبير والقصص كثيرة لكن لن يتسع مقال لسرد هذه القصص..والمسؤولية تقع على الأهل بالدرجة الأولى والمجتمع بكل مكوناته..أيضاً مسؤولية الحكومات أن لا تتهاون في موضوع التحرش وأن تسن قوانين رادعة لمعاقبة المتحرشين وتوقيع أقصى العقوبات عليهم حتى لا تتكرر مثل هذه المماراسات المنحلة لأن من آمن العقاب أساء الأدب..من حق كل مواطن أن يتمتع بحريته وأن يعيش بأمن دون خوف أو تهديد، وحق الأطفال علينا حمايتهم وإبعادهم عن أي مصدر للخوف والقلق لضمان سلامة بنيتهم الجسدية والنفسية.
حفظ الله الجميع..
سلوى حماد