نظراً لموقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية من البترول والغاز، كانت منطقة الشرق الأوسط تاريخياً موضع اهتمام كبير من قبل الدول العظمى. فالإتحاد السوفياتي كان له تأثير واضح في المنطقة خاصة في مصر أيام الرئيس جمال عبد الناصر، وكذلك في سوريا واليمن والعراق، كما أن الولايات المتحدة كان لها تأثيرها عبر تحالفها التام مع إسرائيل، وعلاقاتها المميزة مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى.
إنحلال الإتحاد السوفياتي عام 1990 أدى الى تقلّص كبير للدور الروسي في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط بالذات لمدة عقدين من الزمن، وأصبحت الولايات المتحدة الدولة العظمى الوحيدة، ووسّعت نفوذها في كثير من المناطق بما فيها طبعاً هذه المنطقة.
بدأت روسيا تستعيد بعضاً من دورها العالمي وخاصة في الشرق الأوسط بعد تسلّم فلاديمير بوتين رئاسة البلاد، في الوقت الذي بدأ فيه الدور الأميركي يتقلص شيئاً فشيئاً اعتباراً من العام 2013، عندما تراجع الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما عن تهديده بقصف النظام السوري في حال استعمال أسلحة كيماوية ضد الثوار، وحصل توافق في حينه بين الرئيسين الروسي والأميركي التزمت بموجبه روسيا بإخراج الأسلحة الكيماوية من سوريا وإتلافها.
لكنّ التراجع الإضافي في النفوذ الأميركي في سوريا وتالياً في المنطقة حصل في شهر أيلول 2015 عندما قررت روسيا التدخل عسكرياً في الحرب السورية ضد الثوار، فقلبت ميزان القوى لمصلحة نظام الرئيس بشار الأسد، في الوقت الذي كانت الإدارة الأميركية تدعم فيه الثوار وتطالب علناً بإنهاء حُكم الرئيس السوري.
إستطاعت روسيا، عبر نجاح تدخّلها العسكري في سوريا، تحقيق عدة أهداف. فقد تمكنت من استرجاع هيبتها عالمياً، فارضة على الدول الأخرى التعامل معها على أنها استعادت دورها كقوة عظمى، واضعة حداً للأحادية الأميركية في هذه المنطقة. كما أنها تمكنت من توجيه رسالة واضحة عن قوتها المتجددة تجاه دول الإتحاد السوفياتي السابق التي كانت تسعى الى التفلت من الهيمنة الروسية، وكذلك لتطمين حلفائها أنها قادرة على حمايتهم عند الحاجة.
أما الأهداف الرئيسية لروسيا في المنطقة، فهي من جهة تحقيق مصالح اقتصادية لها خاصة في مجال بيع الأسلحة لدول في المنطقة، والتدخل في أسواق البترول والغاز لضمان عدم هبوط الأسعار بشكل يؤثر على اقتصادها كونها من الدول المصدرة للبترول، والسيطرة على الإرهاب الناتج عن التطرف الإسلامي كي لا يقوى ومن ثم يتمدد في مناطق نفوذها وفي الداخل الروسي بالذات.
ومن خلال تعزيز وجودها ونفوذها العسكري والإقتصادي في المنطقة، تسعى روسيا الى مواجهة النفوذ الأميركي والأوروبي وإضعافه قدر المستطاع، وملء الفراغ الذي تخلفه الولايات المتحدة في كل من ليبيا ومصر وتركيا وإيران.
ومن أهداف الولايات المتحدة أيضاً محاربة الإرهاب الذي يطاول المصالح الأميركية في مناطق كثيرة، هذا مع السعي الى وضع حد لانتشار الأسلحة النووية خاصة في إيران، وتأمين سلامة تدفّق النفط الخليجي الى حلفائها في كل من الإتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية واليابان بعد أن أصبحت تستطيع الإستغناء عن استيراد البترول لاستهلاكها المحلي، وكل ذلك طبعاً الى جانب تأمين سلامة وحماية إسرائيل التي هي في طليعة أولوياتها الشرق أوسطية.
فبعد أن كانت روسيا غير قادرة على التدخل في الشرق الأوسط في العقد الأخير من القرن العشرين وفي العقد الأول من القرن الحالي في أعقاب انحلال الاتحاد السوفياتي، أصبحت الآن في وضع تنافسي قوي مع الولايات المتحدة، وبِندّية واضحة إن لم يكن بتفوق نسبي. وها نحن نرى الولايات المتحدة تحاول الحفاظ على ما بقي لها من دور تؤديه في المنطقة، باستثناء طبعاً تحالفها القوي مع اسرائيل.
كيف تظهر المنافسة الروسية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟
بالرغم من استمرار وجود بعض القوات الأميركية في سوريا، لا شك أن الإنسحابات الأميركية المتتالية، سواء في عهد أوباما أو في عهد ترامب، أضعفت كثيراً التأثير الأميركي على التطورات العسكرية والسياسية في هذا البلد، بينما اكتسبت روسيا نفوذاً واضحاً في سوريا بعد أن حققت انتصارات عسكرية هامة لصالح النظام، وأصبح لها قاعدتان عسكريتان ثابتتان، إحداهما قاعدة جوية في مطار حميميم، والأخرى قاعدة بحرية في مرفأ طرطوس.
هذا الوجود العسكري الهام أمّن لروسيا نفوذاً واضحاً في أية حلول يمكن أن تبحث بالنسبة الى الأزمة السورية، وأصبحت روسيا المدافع الأول عن النظام القائم في سوريا، في الوقت الذي لم يعد للولايات المتحدة أي دور تؤديه في هذا الإطار، بعد أن كانت تسعى بشتى الوسائل الى إنهاء نظام الرئيس بشار الأسد.
على صعيد آخر وانطلاقاً من وجودها العسكري الفاعل في سوريا، أسّست روسيا لنفسها مركزاً هاماً في الشرق الأوسط، تنطلق منه للتدخل في أزمات المنطقة حيث تسعى إلى لعب دور في كل من ليبيا، وفي الخلاف بين مصر وإثيوبيا في موضوع سد النهضة حيث أعلن وزير خارجية مصر سامح شكري منذ أسابيع قليلة عن أمله في أن تساهم روسيا في حل هذه الأزمة.
كذلك تسعى روسيا الى تعزيز علاقاتها مع دول الخليج العربي، خاصة مع قطر التي توجد فيها أكبر قاعدة عسكرية جوية أميركية خارج الولايات المتحدة، ومع السعودية بالذات، التي هي الحليف العربي الأكبر للولايات المتحدة، حيث العلاقة الشخصية بين الرئيس بوتين وولي العهد السعودي محمد بن سلمان جيدة جدا، إذ يشيد بوتين علناً بمزايا الأمير السعودي، وقد وصل تطور العلاقات بين هاتين الدولتين الى البحث في إمكانية شراء سلاح روسي من قبل المملكة، وفي ذلك تحد كبير للولايات المتحدة التي تعتمد مصانع الأسلحة فيها على مبيعاتها لدول الخليج وخاصة المملكة السعودية.
وبالنسبة الى إيران، فإنّ لروسيا علاقات جيدة مع هذه الدولة المعتبرة عدوة للولايات المتحدة التي تسعى الى إعادة تفعيل الإتفاقية النووية بعد انسحاب الرئيس السابق دونالد ترامب منها في أيار 2018، وروسيا تستطيع أن تلعب دوراً إيجابياً في هذا الإطار، ولكن انطلاقاً من التزاحم الأميركي-الروسي في العالم، فإنّ روسيا لا يهمها مساعدة الولايات المتحدة في حل أزماتها.
وإذا كانت روسيا تسعى أحياناً الى التخفيف من النفوذ الإيراني في سوريا، فإنها تقوم بذلك كي لا يحصل أي تشويش إيراني، مقصود أو غير مقصود، على حرية تحرك روسيا سياسياً وعسكرياً في سوريا وليس إرضاء للولايات المتحدة.
وعلى الصعيد الإسرائيلي، واضح انّ العلاقة الشخصية بين الرئيس الروسي بوتين ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو جيدة جدا، لدرجة ان نتنياهو التقى بوتين مرات عديدة، وأكثر مما التقى الرئيس الأميركي أوباما في خلال السنوات الثماني من رئاسته، ولكن ذلك لا يعني إطلاقا أن روسيا تستطيع تعكير العلاقة الأميركية-الأسرائيلية المتينة جدا، علماً أن بوتين ربما يستطيع توظيف علاقته الجيدة مع نتنياهو والوجود العسكري الروسي في سوريا للتخفيف من القصف الجوي الإسرائيلي على مواقع سورية.
صحيح أنه لم يكن لروسيا دور في التوصّل لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس منذ أسبوعين، إلا أن تصريحات ودعوات صدرت عن مسؤولين من روسيا لوقف القصف على المدنيين وفي ذلك إشارة إلى رغبة روسيا في التدخل في هذا الموضوع، ولكن ذلك اقتصر على التصريح الكلامي إذ أن النفوذ الروسي الذي يتوسّع باطّراد في منطقة الشرق الأوسط لا يستطيع مزاحمة النفوذ الأميركي في إسرائيل حيث تبقى الولايات المتحدة الحليف المتين من دون أية منافسة.
باختصار، إن توسّع النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط قد أعاد لروسيا هيبتها بين الدول، كما انّ نجاحها العسكري والسياسي في سوريا أعطاها مصداقية في علاقاتها الدولية، سواء مع حلفائها أو مع أخصامها، ومع أن ذلك يشكل بعض الإزعاج والتحدي للولايات المتحدة، إلا أنه لا يغيّر بصورة جذرية ميزان القوى العالمي وتبقى الولايات المتحدة، حتى الآن، القوة الأولى اقتصاديا وعسكريا.
الخلافات بين أميركا وروسيا كبيرة ومتشعبة، والتزاحم بين الدولتين لا يقتصر طبعا على منطقة الشرق الأوسط، بل إنه يشمل جميع المناطق. وجدير بالتذكير هنا ان بايدن أجاب بالإيجاب عندما سأله أحد الصحافيين إن كان يعتبر الرئيس الروسي بوتين مجرماً، وهذا ما أدى الى مزيد من التوتر بين الدولتين والرئيسين، لكنّ بوتين وبايدن سيسعيان إلى مناقشة الخلافات القائمة بينهما في اجتماعهما المقرر في 16 حزيران في مدينة جنيف، ومهما كانت نتيجة هذا الإجتماع، فإن التزاحم بين هاتين الدولتين سيستمر، إذ أن مصالح الدول هي التي تقرر السياسة المتّبعة، وروسيا حاليا لن تتراجع عن محاولاتها توسيع رقعة نفوذها خاصة في الشرق الأوسط، حيث أصبح لها قاعدة متينة في سوريا تستطيع أن تنطلق منها في كافة الإتجاهات.