في المهجر، نحن أمام مشهد مختلف تمامًا، وحقيقة مغيّرة لقوانين الحياة كما ألفناها. هنا، تنقلب المعايير، وتتبدّل الأدوار، ونعيش زمنًا يتكاثر فيه أولئك الذين ينصبون أنفسهم قُضاةً على شؤون الجالية، وهم – في حقيقتهم – زائفون. زمن قلّ فيه أصحاب الضمائر الحيّة، وتكاثر فيه أيتام المبادئ، وأذلاء الصمت الأعوج والرخيص.
يتصدّر المشهد أولئك الذين ادّعوا أنهم أوصياء على الأخلاق، وحراسٌ للحقيقة، وهم – في واقع الأمر – أبعد الناس عنها. يفتكون بسمعة الآخرين بلا بيّنة، ينهشون الكرامات دون وازع، يعربدون ويبطشون، ويتناسون أن هناك من لا يغفل ولا ينام، من يرى سقوطهم ويشهد على قذارة نفوسهم.
يشهّرون ويقذفون، ويتلذذون بنشر الأذى كما يتلذذ العاجز بسلطة واهية، ويظنون أن بإمكانهم فرض الهيبة أو الصعود على أكتاف الآخرين… لكنهم لا يدركون أنهم لا يفعلون شيئًا سوى فضح صحراء أرواحهم القاحلة.
هذا المقال ليس تأملًا أدبيًا عابرًا، بل صرخةٌ في وجه الزيف، وصفعةٌ أخلاقية في وجه الافتراء، ودعوةٌ للتأمل في جوهر التجربة الإنسانية، تلك التي تصقل الوعي، وتعيد للكرامة معناها النبيل. ففي نهاية المطاف، من لم يشرب من بحر التجارب… سيموت عطشًا في صحراء الحياة.
الحياة لا تُعاش من خلف النوافذ، ولا تُفهم من فوق الكراسي الوثيرة. وحدهم الذين تجرّعوا طَعم الفقد، وتوسدوا خيباتهم، ووقفوا بين مفترقات الطرق حائرين، هم من تعلموا كيف يُروى ظمأ الإنسان بالحكمة، لا بالماء.
التجربة ليست خيارًا نرفّه به أنفسنا، بل ضرورة وجودية. من لم يذق مرارة الخطأ لن يعرف قيمة الصواب، ومن لم يتعرض للخذلان لن يعرف طُهر الوفاء. ومن لم تسحقه الحياة مرة، لن يشعر بلذة النهوض من جديد.
في زاوية معتمة من هذه الحياة، يتسلل بعض البشر، ليس ليتعلموا، بل ليُؤذوا. ينهشون في كرامات الآخرين، يشهرون، ويقذفون، ويختلقون القصص في وضح النهار دون دليل، ويظنون أن صمت السماء علامة رضا، لا اختبار. هؤلاء لا يحركهم وعيٌ ولا ضمير، بل تُحرّكهم تربية وضيعة، أو أحقاد دفينة، أو أمراض خفية تتخفى خلف أقنعة الفضيلة.
يتلذذون بتشويه السمعة، يظنون أنفسهم قضاة الحقيقة، وهم غارقون في أوحال الكذب. لا يدركون أن من لم يتعلم من تجارب الحياة، وظن أنه فوقها، سيقف يومًا أمام صحراء وجوده، فلا يجد ظلًا ولا ثمرة. سيجد ذاته خاوية، جامدة، كالحجر الذي مرّت عليه المواسم فلم يُزهر مرة.
ذلك الذي يفتري على الناس، ويُخرّب البيوت، ويطعن في شرف من لا يعرف، يعيش حياةً ظاهرها ضجيج، وباطنها خواء. يتوهم أنه منتصر، بينما هو في الحقيقة عطشانٌ للإنسانية، فاقدٌ لطعم الحياة، مُجرّد من النعمة الكبرى: أن تحيا بقلب سليم.
من لم يتذوق التجربة، لا يشعر بلذة النضوج. ومن لم يخضع للحياة، لا يعرف معنى الكرامة. هؤلاء، وإن ملأوا الدنيا صخبًا، يعيشون في داخِلهم عزلةً قاتلة، وصحراء لا يسكنها إلا الغضب والحقد والبؤس.
وفي المقابل، هناك أُناس اختاروا طريقًا آخر. أناس ذاقوا طعنات الغدر، وعاشوا مرارة الظلم، وتعرضوا لتشويه السمعة، لكنهم لم يردّوا بالمثل. فضلوا الصمت عن السباب، والسلام على الانتقام، والسير في الضوء بدل السقوط في الوحل. هؤلاء ليسوا ضعفاء كما يظن البعض، بل هم أقوياء بما يكفي لأن يُبقوا أيديهم نظيفة وقلوبهم مطمئنة.
من يصبر على أذى الناس، وهو قادر على الرد، يملك من العظمة ما لا توزنه كفة الدنيا. من يختار الكرامة بدل المهاترات، يختار طريق النور، حتى وإن بدا أطول. هؤلاء هم من يعيشون بضمير مرتاح، وقلوب صافية، ونفوس طاهرة لا تحمل أحقادًا ولا تطلب انتقامًا.
فالحياة في جوهرها ليست لوحةً بلونٍ واحد. إنها مزيجٌ دائم من الانتصارات والهزائم، من الصحة والمرض، من الاستقرار والقلق، من الفقر والغنى، من الاحتياج والوفرة، من اللقاء والفقدان. تتغير الوجوه، وتتعاقب الفصول، لكن ما يبقى في النهاية هو الرضى... الرضى الذي يُهذّب النفس، ويُصالحها مع تناقضات الوجود.
ذلك الرضى هو سيّد المشهد، وهو السقف الذي يحميك من صواعق التقلبات. فإن كنت غنيًا دون رضى، فأنت فقير. وإن كنت في منصبٍ دون قناعة، فأنت مخلخل الجذور. وحده الرضى يُعطي المعنى لكل ما نملكه أو نفتقده.
لكن، يا من ارتضيتم العدم، وسلكتم دروب الانحدار، وتماديتم في افتراء الناس وتشويه كراماتهم… تذكّروا: لقد اختَرتم أن تكونوا أيتام الكرامة، ومتسوّلي الحياة، تمشون بيننا بلا وجهٍ حقيقي، لأنّ من يبيع نفسه مقابل أذية الآخرين، لا يملك شيئًا ليستحقّه.
سيمفونية الحياة… بين النشاز والانسجام
الحياة ليست عدلاً دائمًا، ولا منصفًا دائمًا، لكنها تُنصف في النهاية من عاشها بصدق. والتجربة ليست كلها وردًا، بل فيها شوك، وألم، ودموع. لكن من يمر بها، يتعلم كيف يكتب نوتة حياته الخاصة. كيف يعزف على وتر الصبر، ويخلق من الشدة جمالًا.
في هذه السيمفونية، هناك من يصرخ، ومن يصمت. من يشتم، ومن يغفر.
من يُشوّه، ومن يُطهّر. وكلٌّ يعزف لحنه… لكن ما يصنع الفرق هو نوع اللحن: هل هو نغمة للضجيج أم لحن للحكمة؟ هل تعيش لتفتري؟ أم تعيش لتتعلم؟
إلى أولئك الذين استباحوا كرامات غيرهم: تأملوا صحراء أرواحكم. اسألوا أنفسكم: هل من لذة حقيقية في إيذاء الآخرين؟ هل من نُبل في نشر الأكاذيب؟ تذكروا أن التجربة لا تعني أن نؤذي، بل أن نرتقي. وأن الحياة تعود بالدروس، حتى لو بعد حين، وأن ميزان العدل لا يسقط وإن تأخر.
وإلى من صبروا على القسوة، وتحملوا ظلم الأقربين قبل الغرباء: أنتم في أعلى المقامات. لأنكم أثبتم أن النقاء لا يُكسر، وأن القلب النظيف أقوى من ألف لسان مسموم. أنتم تشربون من بحر التجربة، لا لتغرقوا، بل لتزهر أرواحكم في زمن القحط.
من لم يشرب من بحر التجارب سيموت عطشاً في صحراء الحياة…لكن من شرب منه، سيُزهر حتى في أقسى الفصول.
