آخر الأخبار

كل عام وكندا بألف خير… كل عام وكندا قوية، مستقرة وملهمة

يحلّ يوم كندا في الأول من يوليو حاملاً معه فرصةً للتأمل والتقييم ومراجعة الذات: من نحن؟ ومن نكون؟ وما الذي نريده؟ وكيف نؤثر ونتأثر؟ وهل يرضينا أن نبقى أرقامًا أو أدواتٍ مستخدمة لا مبدعة ولا مؤثرة؟ وهل نحن حقًا جزءٌ من هذه الهوية أم مجرد متطفلين وزيادة عددٍ عليها؟ إنه يوم لا يقتصر على الاحتفال والفرح، بل يوم يقف فيه كل واحدٍ منا أمام مرآة الانتماء ليسأل نفسه بصدق: ماذا تعني لي كندا؟ وماذا يعني أن تكون كنديًا في عالمٍ يموج بالتغيّرات والتحديات؟

أعرف أن هناك مصاعب سياسية واجتماعية واقتصادية، وهناك خشية حقيقية من انتشار الجريمة وعدم توفر التوازن في التعامل مع التحديات. ولربما يشعر البعض أحيانًا بازدواجية المعايير أو يواجهون عنصريةً وكراهيةً بأشكالٍ متفاوتة. نعم، هذه ظواهر موجودة في كل المجتمعات، لكن الأهم من توصيفها أن نسأل أنفسنا: لماذا يحصل ذلك إن كان يحصل؟ ولماذا نكتفي بأن نكون ضحايا نلطم ونشكو ولا نبحث عن عوامل قوتنا ونجاحاتنا؟ لماذا لا نحرص على أن نكون حاضرين شامخين، واثقين، غير مترجفين؟ لماذا نفترض مسبقًا فكرة الإقصاء والرفض قبل الدخول في غمار الحياة التي تحيطنا بتحدياتها وفرصها؟ ولماذا نقبل بمرجعياتٍ متخبطة ومتناثرة لا تعزز فينا روح المبادرة ولا الوعي الجماعي؟

ورغم ما واجهناه – وما زلنا نواجهه – من مواقف تجاه قضايانا المحورية في بلادنا الأصلية، وعلى رأسها قضية العرب والمسلمين المركزية: قضية فلسطين، وهي مواقف لا ترتقي دائمًا إلى مستوى آمالنا وتطلعاتنا العادلة، ورغم استمرار الأزمات الاقتصادية والصحية وتزايد التوترات الاجتماعية نتيجة تراجع الشعور بالأمان مقارنةً بالسابق بسبب تغول الجريمة والمجرمين، إلا أن كندا بقيت على الدوام قادرة على الصمود لأنها لم تفقد بوصلتها الأخلاقية. بقيت وفية لقيمها المؤسسة: الإنصاف، الاحترام، الحرية، والتضامن. نعم، لا نخفي أننا نعيش في زمنٍ فيه قلق مشروع على تماسك النسيج الاجتماعي وصعوبة الحياة اليومية لكثيرين، لكن في المقابل يظل الإيمان بأننا معًا نستطيع أن نخفف وطأة الأزمات وأن نعيد البناء أقوى من أي يأس.

كندا ليست مجرد خطوطٍ مرسومة على خارطة شاسعة، وليست فقط اقتصادًا متقدّمًا أو نظامًا ديمقراطيًا مستقراً. كندا فكرة… فكرة أن التنوع لا يهدد وحدة المجتمعات بل يغنيها. فكرة أن كرامة الإنسان فوق كل اعتبار، وأن العدالة والمساواة ليست ترفًا بل حقٌ أصيل. هنا يستطيع القادم من بعيد أن يبدأ حياته من جديد دون أن يشعر أنه دخيل أو زائد عن الحاجة. هنا يشعر كل طفلٍ يولد أن له مكانًا مضمونًا على طاولة المجتمع مهما كان لونه أو لغته أو دينه.

في يوم كندا، لا نحتفل فقط بعقودٍ من التاريخ، بل نجدد العهد بأن هذا البلد يستحق إخلاصنا وطاقتنا وأحلامنا. أن ننتمي إليه يعني أن نتحمل مسؤولية الحفاظ على روحه المنفتحة والمتحضرة، وأن نحمي حرياته ونصون قيمه، وأن نعلّم أبناءنا أن المواطنة ليست مجرد جواز سفر، بل التزامٌ عميق بالمشاركة والإسهام. أن ننتمي إليه يعني أن نجدد في نفوسنا روح الانتماء الصادق، والاعتزاز بهويته الجامعة، والاستعداد للمشاركة الفاعلة في بنائه والمساهمة المخلصة في تقدمه.

إن أولى الرسائل التي يستحق أن نتوقف عندها اليوم هي أهمية الانتماء والتماسك؛ فكل فرد منا جزء من هذه الأرض ومن هذه القيم. وكل محاولة للتقليل من شأن الانتماء أو التشكيك فيه هي خطوة نحو الفراغ الروحي والاجتماعي الذي لا يليق بنا ولا بمستقبل أجيالنا. نحن هنا لننتمي… لنصنع فرقًا… ولنترك أثرًا.

أما الرسالة الثانية، فهي التوقف عن فكرة الانعزال. لقد علمتنا التجربة الكندية أن العزلة لا تحمي أحدًا، بل تضعف اللحمة الوطنية وتبني جدرانًا وهمية بين أبناء البلد الواحد. لا مستقبل لأي مجتمع إذا ظنّ بعض أفراده أن الانغلاق هو طريق الأمان. القوة في الانفتاح والتواصل، في أن نمدّ اليد لمن يختلف عنا، وهذا لا يعني الانصهار أو التنازل عن خصوصيتنا أو التسليم بما يتناقض مع ثقافتنا وعقيدتنا، بل يعني أن نعيش بثقة وانفتاح واحترام متبادل، دون أن ننكفئ داخل دوائر ضيقة نخشى الخروج منها.

الرسالة الثالثة، التي باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، هي ضرورة التوحد في وجه الجريمة. الجريمة لا تفرّق بين حيٍّ وآخر ولا بين مكونٍ وآخر. مواجهتها لا تقع على عاتق الشرطة وحدها، بل هي مسؤولية أخلاقية جماعية تبدأ من التربية والتوعية، مرورًا بالتضامن المجتمعي، وصولًا إلى دعم الضحايا ورفض التبرير والتساهل مع كل ما يهدد أمن الناس.

أما الرسالة الرابعة، فهي الإيمان بأن الأمن القومي لهذا البلد هو أولوية قصوى يجب الإيمان بها بشكل عميق وهي مصلحة مشتركة للجميع. ليس من مسؤولية الدولة وحدها أن تحمي المجتمع من المخاطر، بل هي مسؤولية نتشاركها جميعًا: الأفراد والجمعيات والمؤسسات. كلٌ بدوره ويقظته ووعيه وتعاونه. إذا لم يشعر كل واحد منا بأن أمن هذا الوطن هو أمنه الشخصي، فلن نستطيع أن نحافظ على ما بنيناه بجهد وعرق ودموع.

وأخيرًا، أود التذكير بأن كل واحدٍ منا يمكنه أن يكون عنوانًا لهويته وثقافته وعقيدته، وهو في ذات الوقت يشعر بالانتماء الحقيقي لحاضنةٍ تحتضنه وتمكّنه وتفسح له المجال للتمسك بالأصل والانفتاح على المستقبل. هذه القيم تفتح أمامنا جميعًا الطريق لنؤمن بقوة الكلمة والمشاركة، والإصرار على الارتقاء بروح الأمل والاندفاع نحو تأكيد أن كندا هي للجميع: كرامتها جزء من كرامتنا الجامعة، قوتها هي قوة الجميع، استقرارها هو استقرار الجميع، سلامتها هي سلامة الجميع، وقوة اقتصادها هي رفاهية الجميع.

كل عام وكندا بألف خير… كل عام ونحن أكثر وعيًا بمعنى الانتماء، وأكثر التزامًا بقيم التماسك والتواصل، وأشد عزيمةً على الوقوف صفًا واحدًا في وجه التحديات والجريمة. كل عام ونحن جميعًا حراس هذا الحلم الكندي الكبير الذي صار وطنًا لنا جميعًا.