في البداية، لا بد من التنويه إلى أن هذا المقال موجّه إلى المستوى السياسي الواعي، وبعيد تمامًا عن العواطف والانفعالات الآنية. فهو منطلق من شعور عميق بالانتماء إلى الهوية، وترسيخ لقناعة راسخة بأن العربي في المهجر — أينما كان موقعه — هو صاحب فكر ورأي حر، وموقف مسؤول، وله دور حقيقي في صياغة الرؤى، والمساهمة في اتخاذ المواقف، لا سيّما في اللحظات المفصلية التي تتطلب وضوحًا وشجاعة.
ولذلك، نوجّه رسالة صريحة إلى من تملأ الأحقاد قلوبهم، ويتغذّون على خطاب الكراهية والعدمية، أو من لا يرون في سياسة المهجر سوى نفاق، وشعارات جوفاء، وقراءات سطحية: بعد قراءتكم لهذا المقال وفروا انتقاداتكم السلبية، وزفراتكم الخبيثة، وتجاهلوا ما جاء فيه من رؤية وفكر ومشاركة رأي، فهو ببساطة أعمق من مفاهيمكم المؤدلجة، وأبعد كثيرًا من أطر التفكير الضيقة التي تحكم رؤيتكم الاستحواذية، الإقصائية، الانعزالية، الانغلاقية، والمنافقة.
من هنا أودّ الإشارة إلى أنه تم الإعلان رسميًا عن موعد زيارة رئيس الوزراء الكندي مارك كارني إلى العاصمة الأميركية واشنطن، حيث سيلتقي بالرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض خلال الأسبوع المقبل.
لذلك استطيع القول أنه في لحظات التحوّل الكبرى، لا تكفي النوايا الحسنة ولا التصريحات الودية لصناعة التاريخ. فالتحوّل الحقيقي يُبنى على الجرأة السياسية، والبصيرة الاقتصادية، والشراكات الاستراتيجية التي تتجاوز منطق المكاسب السريعة والخسائر المؤقتة. ومن هذا المنطلق، تكتسب هذه الزيارة المرتقبة أبعادًا تتجاوز الإطار البروتوكولي التقليدي بين جارين تربطهما علاقات تاريخية واستراتيجية عميقة.
إنها لحظة فارقة وفرصة نادرة لإعادة ضبط البوصلة، واستعادة الثقة بين بلدين يشكّلان معًا أحد أكثر التحالفات حيوية في الغرب. صفحة جديدة يمكن أن تُكتب، تعيد الاعتبار للمواطن الكندي والأميركي على حد سواء، من خلال احترام كرامتهما، وتعزيز شعورهما بالهوية والانتماء، بعد سنوات من التوترات التجارية، والرسوم الجمركية المتبادلة، وتباعد المواقف في قضايا محورية.
لقد سبق أن قلنا — وسنكرر — إن الحكمة في التعامل مع التحديات الهادرة التي تهدد نسيج العلاقة بين البلدين وتمس بكرامة شعبيهما وتهدد المصالح الحيوية بينهما، ليست ترفًا دبلوماسيًا، بل ضرورة قصوى وممكنة في آنٍ واحد. واليوم، تبدو الظروف مهيأة أكثر من أي وقت مضى للانطلاق من تلك الحكمة، نحو شراكة متجددة، تتسع لاختلاف الرؤى وتتوحد في مواجهة التحديات الكبرى التي تعصف بالعالم.
واقعية كارني… ودهاء ترامب
كلا الزعيمين يدرك تمامًا حجم التحديات التي تفرضها المرحلة الراهنة. مارك كارني، بخلفيته الاقتصادية العميقة، وتجربته القيادية في مواجهة أزمات مالية عالمية، لا يرى في العلاقة مع واشنطن ترفًا سياسيًا أو هامشًا تكتيكيًا، بل يعتبرها ركيزة من ركائز الأمن الاقتصادي، والاجتماعي، بل وحتى القومي الكندي.
في المقابل، يأتي دونالد ترامب إلى ولايته الثانية وفي جعبته خبرة سياسية غير تقليدية، مدعومة بقاعدة انتخابية صلبة، وخطاب مباشر أثبت فعاليته في التأثير على المزاج العام الأميركي. وهو، رغم ما يبدو من تناقض في تصريحاته، يمارس سياسة إعلامية مقصودة، ذات إيقاع محسوب، تستند إلى فلسفة براغماتية لا تعترف بالحدود التقليدية ولا تتوقف عند الخطوط الحمراء. فالارتباك الظاهري في مواقفه كثيرًا ما يخفي استراتيجية تفاوضية محكمة، تُوظف الصدمة والتصعيد لتحقيق تنازلات من الطرف الآخر.
من هنا، فإن ما بين حكمة وواقعية مارك كارني، وحساباته الدقيقة، ونجاحه اللافت في تجربته السياسية الأولى — حيث تمكن من تصدّر المشهد الكندي في فترة زمنية قصيرة وبأسلوب بارع ومدروس — وبين براغماتية دونالد ترامب وشخصيته المثيرة للجدل، تتشكّل فرصة نادرة لصياغة “تفاهم ذكي” يعيد تنظيم الأولويات الثنائية، ويخفف من حدة التوتر في الملفات الشائكة، ويُعيد التوازن إلى علاقة شابها الكثير من الاضطراب خلال السنوات الأخيرة.
هذا التفاهم لا يُبنى على العواطف ولا على الشعارات العابرة، بل على أسس متينة من الاعتراف المتبادل بالمصالح الاستراتيجية، وعلى شجاعة سياسية قادرة على إعادة تقييم ما اعتُبر ثابتًا، وتطوير ما يمكن تغييره في إطار من الواقعية والمسؤولية.
وفي لقاء إعلامي أجرته احد القنوات الفضائية العربية الكبيرة خلال اليومين الماضيين، طُرِح عليّ سؤال مباشر حول مستقبل العلاقة بين أوتاوا وواشنطن، وإمكانية أن يُوضع مارك كارني في الموقع ذاته الذي وُضع فيه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي داخل البيت الأبيض. وكان جوابي حاسمًا: هذا أمر مستبعد تمامًا. فالرئيس دونالد ترامب يدرك تمام الإدراك الفروقات العميقة بين الشخصيتين، ويعي أن مارك كارني هو رئيس وزراء كندا — الدولة التي تمتلك وزنًا استراتيجيًا واقتصاديًا وسياديًا، وتربطها بالولايات المتحدة علاقة تاريخية خاصة لا تسمح بمثل ذلك النوع من الاستعراضات السياسية وممارسة التنمر السياسي بدون داع.
بل أذهب أبعد من ذلك في تقديري: اللقاء المرتقب بين كارني وترامب سيكون دافئًا، سلسًا، ومبنيًا على احترام متبادل بين زعيمين يعرفان مكانة بلديهما، ويتقنان فن إدارة المصالح الكبرى، بعيدًا عن المواقف الاستعراضية أو الإملاءات العلنية.
وحدة الداخل شرط لتماسك الخارج
غير أن الانفتاح على واشنطن وحده لا يكفي. فكندا التي تمر بمرحلة تحول سياسي واقتصادي داخلي، مطالبة بإعادة بناء وحدتها الوطنية من الداخل. فالنقاشات التي عصفت بالحياة السياسية خلال الحملة الانتخابية، والانقسامات الحزبية والجهوية التي برزت على السطح، تفرض على الحكومة الجديدة تحديًا داخليًا لا يقل أهمية عن الملفات الخارجية.
وحدة الصف، واحترام التنوع، وتبني خطاب جامع يتجاوز الاستقطاب السياسي، تمثل اليوم أسسًا لا غنى عنها لتعزيز الموقف التفاوضي الكندي خارجيًا، ولبناء صورة أكثر تماسكًا للدولة في المحافل الدولية.
ملفات ثقيلة على الطاولة
اللقاء المرتقب بين كارني وترامب لن يكون مجاملة دبلوماسية. فهناك ملفات ثقيلة تنتظر الحسم، من الرسوم الجمركية على صادرات المعادن الكندية، إلى مستقبل التعاون في مجال الطاقة، وصولًا إلى قضايا الأمن الحدودي، والتنسيق في الملفات الدولية الحساسة مثل ملف أوكرانيا وملف الشرق الأوسط ، والنفوذ الصيني المتزايد.
كما أن هناك حاجة ملحّة لبحث مستقبل اتفاقيات التجارة الحرة في ظل التوجه الأميركي الجديد نحو الحماية الاقتصادية، وتنامي الخطاب الشعبوي في الجانبين. كندا بحاجة إلى ضمان موقعها ضمن سلاسل التوريد الأميركية، وأميركا بحاجة إلى شريك موثوق قادر على لعب دور الوسيط في العلاقات العابرة للأطلسي.
لحظة تاريخية لا يجب تفويتها
تاريخ العلاقات الكندية الأميركية حافل بالمنعطفات الحادة، لكن ما يميز هذه اللحظة تحديدًا هو أن كلا البلدين يواجهان ضغوطًا اقتصادية واجتماعية كبرى في الداخل، وتحولات استراتيجية في النظام الدولي في الخارج. ولهذا فإن خيار التعاون — القائم على الندية والاحترام المتبادل — ليس فقط مرغوبًا، بل ضرورة حتمية تحقق مصالح الطرفين وتُعيد توازن الشراكة في وجه المتغيرات.
ولذلك، فإن نجاح هذا الخيار لا يقع على عاتق القيادة الكندية وحدها، بل أيضًا على الرئيس دونالد ترامب، الذي عبّر عن بادرة إيجابية بوصفه مارك كارني بأنه “لطيف للغاية”. لكنها مجاملة لا تكفي إذا لم تُترجم إلى مواقف واضحة تبتعد عن الخطاب الشعبوي الاستفزازي — سواء ما تعلق بالحديث عن “ضم كندا”، أو الاستمرار في فرض تعريفات جمركية تربك الأسواق وتُلحق ضررًا مباشرًا بالعلاقة الاستراتيجية بين البلدين.
كلمة أخيرة
نحن نعلم أن كندا تقف اليوم أمام مفترق طرق حاسم. وهي تتطلع، بكل واقعية وإصرار، إلى استثمار هذه “البداية الموفقة” وكتابة صفحة بيضاء في سجل العلاقة مع واشنطن — لا من باب المجاملة أو التبعية، بل من منطلق الندية، والتمسك بالمكانة، وصون كرامة الهوية الوطنية.
إن ترميم الخلاف لا يتحقق بالنوايا وحدها، بل يتطلب إرادة سياسية شجاعة، وقرارات مسؤولة، وجهودًا متضافرة من النخب، والمؤسسات، ومن الشعبين الكندي والأميركي، اللذين يملكان، في نهاية المطاف، الكلمة الفصل حين يتعلق الأمر بمستقبل العلاقة، وهوية البلدين، وموقعهما المتقدم في عالم مضطرب لا يعترف إلا بالشراكات الراسخة والتحالفات المتوازنة.