آخر الأخبار

انتخابات تاريخية لم تخلُ من الزلازل السياسية الكبرى… فهل التغيير سيكون ضخماً أم محدوداً؟

الانتخابات الفيدرالية الكندية الأخيرة لم تكن مجرد محطة ديمقراطية عابرة، بل تحوّلت إلى لحظة مفصلية من عمر الحياة السياسية في البلاد. فمنذ الإعلان عن النتائج، بدا أن الزلزال السياسي لم يضرب فقط في توزيع المقاعد، بل وصل إلى عمق التوازنات الحزبية والقيادية، ليسقط زعماء، ويصعد بوجوه جديدة، ويطرح تساؤلات كبرى حول مستقبل الحكم والاستقرار وهوية كندا السياسية في المرحلة المقبلة.

زلازل سياسية غير مسبوقة: سقوط ثلاثة زعماء

لم تكن الانتخابات الفيدرالية الأخيرة مجرد تنافس على المقاعد، بل حملت بين طياتها سلسلة من الزلازل السياسية غير المسبوقة، تمثّلت في سقوط ثلاثة من أبرز زعماء الأحزاب الفيدرالية، ما سيحدث فراغًا قياديًا داخل البرلمان في معسكرات اليمين واليسار على حد سواء، ويعيد رسم المشهد الحزبي من جذوره.

1. خسارة زعيم حزب المحافظين: سقوط مدوٍّ يعيد رسم المعسكر اليميني

من أكبر المفاجآت التي صدمت المراقبين والناخبين جاءت خسارة زعيم حزب المحافظين بيير بوليفير مقعده البرلماني، وهي خسارة فريدة في تاريخ الحزب الحديث، خلقت حالة من الترقب والتكهنات حول مستقبل الحزب داخليًا وداخل البرلمان، وطرحت تساؤلات جدية حول ما إذا كان غياب بوليفير عن المؤسسة التشريعية سيؤثر على تماسك الحزب البرلماني وقدرته على أداء دور المعارضة بفعالية.

بوليفير، الذي خاض حملته الانتخابية بشراسة، مركزًا على قضايا الاقتصاد والتضخم والهجرة ومحاربة الجريمة، لم ينجح في إقناع الكنديين بخطابه التصادمي الذي واصل تبنّيه حتى اللحظة الأخيرة.

ورغم محاولاته تصوير نفسه كصوت البديل الحازم، إلا أن خطابه بدا منفّراً لشرائح واسعة من الناخبين، لا سيما في الدوائر الحضرية والوسطية، لينتهي به الأمر خارج المشهد النيابي في سابقة لم يعرفها حزب المحافظين منذ عقود، ما مثّل صدمة سياسية كبرى حتى داخل أوساط حزبه.

خسارته لم تكن مجرد إخفاق انتخابي فردي، بل مثّلت انهيارًا فعليًا لمشروع سياسي متكامل كان يسعى إلى إعادة صياغة دور كندا داخليًا وخارجيًا. ويدخل الحزب الآن مرحلة دقيقة من الفراغ القيادي والسياسي، من شأنها أن تُعيد فتح النقاشات حول هوية الحزب، وتوجهه الإيديولوجي، واستراتيجية خطابه العامة.

2. سقوط زعيم حزب الشعب الكندي (PPC): نهاية حلم التمدد الشعبوي

في موازاة ذلك، خسر زعيم حزب الشعب الكندي (PPC) مقعده البرلماني، في ضربة موجعة للحركة الشعبوية التي حاولت ركوب موجة الغضب الشعبي لتوسيع نفوذها.

لكن نتائج الاقتراع أظهرت أن الكنديين يريدون التغيير ضمن المؤسسات، لا ضدها، وأن الخطابات التفكيكية لم تنجح في تجاوز سقف التأييد الهامشي.

سقوط زعيم الحزب يُعد نهاية عملية لطموحات التمدد الشعبوي، ويترك الحزب في حالة غياب قيادي واستراتيجي قد تؤدي إلى انكفائه إلى الهامش.

3. خسارة زعيم الحزب الديمقراطي الجديد: انطفاء زعامة يسارية

أما على يسار المشهد، فقد خسر زعيم الحزب الديمقراطي الجديد (NDP) جاغميت سينغ مقعده بفارق كبير، ما دفعه إلى إعلان تنحيه عن القيادة فوراً.

تراجع الحزب في الحجم والدور داخل البرلمان، ما اعتُبر مؤشراً على تآكل الثقة الجماهيرية في فعاليته كقوة تغيير حقيقية، وفشله في أن يكون صوتًا جذابًا للطبقات المتوسطة والناخبين الشباب الذين راهن عليهم في حملته.

4. استقالة زعيم حزب الخضر: انتكاسة لحزب البيئة وسط الجمود الانتخابي

في تطور إضافي يعكس حجم الزلازل السياسية التي شهدتها الانتخابات الفيدرالية الأخيرة، أعلن جوناثان بيدنولت، الشريك في قيادة حزب الخضر الكندي، استقالته من منصبه، وذلك بعد يوم واحد فقط من إعلان النتائج.

وجاءت استقالة بيدنولت في أعقاب إخفاق الحزب في تحقيق أي اختراق ملموس على المستوى الوطني، رغم الجهود المبذولة لإعادة تقديم الحزب كقوة سياسية خضراء ذات توجه تقدمي وواقعي.

وكان بيدنولت قد تولى القيادة بشكل مشترك إلى جانب إليزابيث ماي، في محاولة لتجديد الحزب وتعزيز حضوره خارج معاقله التقليدية، غير أن نتائج الانتخابات كشفت استمرار الجمود الانتخابي، وهو ما دفعه إلى التنحي، تاركًا الحزب أمام تحديات قيادة جديدة وإعادة بناء الثقة مع الناخبين

قراءة في فوز الليبراليين: تفويض محدود لقيادة مشروطة

على الجانب الآخر، تمكن الحزب الليبرالي بقيادة مارك كارني من تحقيق فوز انتخابي مهم أعاده إلى سدة الحكم، لكنه لم يكن فوزًا بأغلبية مطلقة، مما يعني أن الحكومة المقبلة ستتشكل في ظل برلمان معلّق.

هذا الوضع يفرض على الحكومة الجديدة إدارة دقيقة للتوازنات البرلمانية، حيث سيكون الاستقرار السياسي مشروطًا بتفاهمات وتحالفات مستمرة، ويقظة دائمة من الحزب لضمان تمرير التشريعات وتفادي الأزمات.

كما أن خيار الانتخابات المبكرة يبقى مطروحًا في أي لحظة، سواء بسبب اختلال التحالفات أو تغيّر المزاج السياسي لبعض النواب، وهو ما يجعل الحكومة الليبرالية أمام تحدٍ مزدوج: الحكم دون تفويض مطلق، والإبقاء على ثقة البرلمان تحت الاختبار الدائم.

حكومة أقلية وذكريات عام 1979… هل يعيد التاريخ نفسه؟

هذا يعيد إلى الأذهان انتخابات عام 1979، عندما فاز المحافظ جو كلارك بحكومة أقلية، لم تنجح في تنسيق مواقفها مع الأحزاب الأخرى، مما أدى إلى سقوط حكومته في غضون أشهر، وعودة الناخبين إلى صناديق الاقتراع بسرعة غير متوقعة.

اليوم، ورغم أن الليبراليين يمتلكون كتلة قوية نسبيًا (169 مقعدًا)، إلا أن عدم حصولهم على أغلبية مطلقة (172 مقعدًا أو أكثر) يجعلهم أمام تحدٍّ مماثل، خاصة إذا لم يتمكنوا من تأمين تفاهم مستقر مع باقي القوى البرلمانية، أو إذا اصطدموا بتصعيد متعمد من المعارضة الجديدة بقيادة المحافظين.

مصير المحافظين: بين تصحيح المسار أو إعادة التموقع بقيادة بوليفير

مع خسارة بيير بوليفير لمقعده، وفشل حزبه في استعادة الحكم رغم كل الجهود، يواجه حزب المحافظين أخطر لحظة وجودية في تاريخه الحديث. وهنا تطرح الأسئلة الملحّة:

من الذي سيتولى القيادة خلفاً لبوليفير؟

هل سيتمكن الحزب من تجاوز هذه الخسارة من خلال اختيار زعيم يوحّد صفوفه بمختلف أجنحته الإيديولوجية؟

أم أن هذه الهزيمة ستفتح الباب أمام انشقاقات داخلية وصراعات بين الجناح التقليدي المعتدل والجناح الشعبوي التصادمي؟

المؤشرات الأولى تفيد بأن الحزب يتجه نحو مراجعة استراتيجية شاملة لخطابه السياسي، وقد يسعى إلى التخلي عن اللهجة التصادمية التي اتسم بها عهد بوليفير، لصالح خطاب محافظ واقعي جامع.

لكن في المقابل، لا تزال فرص بيير بوليفير في العودة إلى البرلمان قائمة بقوة، عبر استقالة أحد النواب في دائرة آمنة، وهي خطوة تتيح له خوض انتخابات تكميلية والعودة إلى موقعه في البرلمان.

ورغم الهزيمة، فإن عدد الأصوات التي حصل عليها المحافظون لا يُستهان به إطلاقًا، ما يعزز حجة أنصار بوليفير الذين يرونه زعيمًا لا يزال يحظى بدعم جماهيري معتبر، ويجب أن يُمنح فرصة لتصحيح المسار ومواصلة قيادة الحزب.

الثابت اليوم أن هناك حراكًا داخليًا نشطًا داخل الحزب: فريق يطالب ببقاء بوليفير، وفريق آخر يحمّله مسؤولية الإخفاق دون أن يعلن موقفه صراحة.

المعركة المقبلة لن تكون فقط حول من يقود الحزب؟ بل أيضًا حول أي حزب يريد المحافظون أن يكونوا؟: هل يتمسكون بالخطاب التصادمي، أم يعودون إلى الاعتدال السياسي والتوجه نحو الحكم؟

التحديات أمام الحكومة الجديدة: الملفات الثقيلة تبدأ الآن

الحكومة الليبرالية الجديدة أمامها ملفات ضخمة داخلية وخارجية:

- أزمة السكن وكلفة المعيشة

- إصلاح النظام الصحي وملف الهجرة

- التوتر التجاري مع إدارة ترامب

- ركود اقتصادي عالمي يلوح في الأفق

- دور كندا في الأزمات الدولية (أوكرانيا، غزة، تايوان…)

خلاصة: من يقرأ الرسالة بذكاء سيفوز بالمستقبل

الرسالة التي حملتها هذه الانتخابات كانت واضحة ومباشرة: لا يوجد كبير، ولا خطوط حمراء أمام إرادة الرأي العام.

الكنديون قالوها بصوت مرتفع: نريد التغيير، لكن دون مغامرة. نمنح الثقة، لكن لا نعطي تفويضًا مطلقًا.

من ينجح في قراءة هذه الرسالة، ويفهم التحولات العميقة في المزاج الكندي، ويتفاعل معها بواقعية وشجاعة، هو من سيكون في موقع قيادة كندا في السنوات القادمة — سواء من الحكومة أو من صفوف المعارضة المستعدة.