كتاب في كلمات: "غاندي والإسلام ومبادئ اللاعنف والتمسك بالحق"

رزان النعيمي

عند التحدث عن الجواهر الخفية من الكتب، وإبداء نبذة عن محتوى مغنٍ جميل وبديع، يحضرني كتاب "غاندي والإسلام ومبادئ اللاعنف والتمسك بالحق"،المُعد من قبل مؤسسة طابة في أبوظبي، وقد قرأته منذ سنين، لكنه من الكتب التي رسخت في ذهني.

 أحب أن أبدأ هنا باقتباس مقولة ذكرت في هذا الكتاب: "ينبغي أن يكون التاريخ تنويراً للروح، لا عبئاً على الذاكرة"، وذلك لأن هذه المقولة تعكس ما يبينه هذا الكتاب، من أنّ حركة الاستقلال التي رسمها غاندي لم تكن كفاحاً سياسياً، بل نضالاً روحياً وأخلاقياً. وهذا يحدد الغايات التي كان غاندي ينشدها، في كون حركته حركة تمرد على الثورة. 

ويقابل الكاتب بين حركة غاندي، وبين أربع ثورات قسّمها حسب غاياتها: ثورة دينية قادها لوثر، وفكرية قادها مونتين، واقتصادية قادها ماركس، وسياسية قادها روبسبير. وبيّن أن هذه الثورات تطمح إلى مارغب به رجالها: الدين والعقل والحرية والخبز؛ أي متطلبات الإنسان الأساسية، وهو بذلك يجعل هذه الأمثلة، نماذج من المحكوم لها أن تتكرر على مر الأزمنة، وتؤدي دائماً إلى الفوضى واللاعقلانية والمجاعة والاستعباد، لكونها تمثل نزعات غريزية ورغبات شخصية أو فئوية، لا تخضع لنظام أخلاقي أعلى، وبالتالي عاجزة عن تحقيق استقرار اجتماعي أو نظام مستدام للحياة أو ترابط فكري. ويبين بأنه على الرغم من أن حركة غاندي كانت أيضاً تسعى لتحقيق الأهداف الأربعة، إلا أنه لم يكن ينشدها باعتبارها أهدافاً منفصلة عن بعضها البعض.

ويمضي الكتاب ليكشف لنا المزيد عن غاندي في بيئته الأم، وينير لنا الإدراك بأن أول وأهم تأثير على غاندي هي أمه بوتليباي التي كانت تتبع طائفة القديس برانات، الذي قام بجمع الديانة الإسلامية والهندوسية في طائفة واحدة، تحرم عبادة الصور والتماثيل وشرب الخمر، فنشأ غاندي على احترام العقيدة الإسلامية والهندوسية على السواء. ودرس غاندي القانون في انجلترا وعاد للهند لممارسة المحاماة قبل أن يتلقى عقد عمل مدته عام في جنوب أفريقيا من مؤسسة تجارية إسلامية اسمها داد عبدالله وشركاؤه، لحل خلاف قانوني داخلي، فبقي هناك 21 عاماً، حتى نشوب الحرب العالمية الأولى. إن أهم حدث لغاندي في هذه الفترة هي علاقته بالشيخ الصوفي الششتي شاه غلام محمد، والذي أرسله الشيخ الششتي الكبير خواجة حبيب علي شاه من دلهي، وذلك لمنفعة آلاف العمال الهنود العاملين في جنوب أفريقيا، لتحقيق احتياجاتهم الروحية والاجتماعية. ولهذا بنى شاه غلام أول مسجد ودار أيتام ومدرسة في دربان. وقد تأثر غاندي كثيراً بشاه غلام وأعجب به، وكان يزوره باستمرار ويقوم مقام المحامي له، حيث تُظهر السجلات توقيع غاندي بصفته محامياً على أعمال الرعاية الخيرية للطريقة الصوفية. وقد كان للحياة تأثير عميق على المحامي الشاب، وكانت مترعة بروح الخدمة، إذ يلتزم كل امرئ بخدمة زميله بصرف النظر عن منزلته الاجتماعية. فكان يشهد أعمالاً متواضعة كتنظيف الحمام مثلاً، يقوم بها صاحب أعلى رتبة روحية بينهم. وقد اقتفى غاندي الأثر هذا في كل أماكن خلواته الروحية مثل مركز فينكس ومزرعة تولستوي، وهذه الخلوات الروحانية تشبه حياة جماعة صوفية أكثر مما قد يدركه مراقب هندوسي.

المؤثرات الأخرى التي ساهمت في تشكيل توجهات غاندي (إلى جانب بيئته الأم والخلفية الدينية لأمه، وتعليمه التنويري في إنجلترا حيث الحركة الفكتورية الرافضة للثورة الصناعية، ومعاشرته مدى عشرين عاماً للشيخ الصوفي والمسلمين،) قرأ غاندي في رحلته الليلية من جوهانسبيرغ إلى ديربان كتاب لجون رسكن بعنوان: لهذا الأخير. وقد أثّر به كثيراً حيث سجّل أهم ما خرج به: صلاح الذات متحقق بصلاح الكل، وبأنّ عمل الحرف والاعتماد على الذات مخرج من الفقر والذل، فقام بصياغة كتيب بعنوان: ارتقاء الكل، وشدّد فيه على أن الحكم الذاتي للهند لا يكون فقط بالقوة السياسية من خلال طرد البريطانيين، والازدهار الاقتصادي من خلال التصنيع فحسب، بل قبل كل ذلك: من خلال تنمية أخلاقية بالدرجة الأولى، حيث يتوجب تعزيز القيم الموروثة بدلاً من تدميرها. (وبالنسبة لي كقارئة، يحضرني هنا أمران: أولهما قول الشاعر: "إنما الأمم الأخلاق مابقيت*فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا"، والأمر الثاني، هو التجربة اليابانية، التي نهضت من أنقاض الحرب العالمية وبرزت بسرعة أدهشت العالم، وأصبحت ثالث أكبر اقتصاد في العالم، حيث أرجع محللو ودارسو التجربة اليابانية ذلك إلى إقبالهم النهم على العلم والمعرفة في أشكالها العالمية مع تمسكهم الشديد في وضعها ضمن قالبها الياباني القائم على حفظ اللغة اليابانية والعادات والتقاليد اليابانية والأخلاقيات المتوارثة، فنجد المستثمر باليابان مرغماً على تعلم لغة وثقافة الدولة لضمان نجاح أعماله فيها، إلى جانب إرسال عدة دول من بينها الإمارات، لبعثات تعليمية لدراسة تجربة اليابان في فرض مادة التربية الأخلاقية في المدارس، والتي ثبتت أهميتها في جعل اليابان في مصاف الدول في كافة الصعد، حيث عزّزتْ أهمية مبدأ تقدم الفرد من خلال تقدم الكل، وأهمية البذل والتضحية في سبيل المجتمع، ونجاح الفرد نجاح للبلد ككل.)

وقد تبين لغاندي أن المطلوب لتغيير الهند هو تحويل مواطنيها لمواطنين ساعين إلى حياة الفضيلة؛ فدعا إلى مبدأ (التمسك بالحق: satyagraha) ويبين أن التمسك بالحق يكون من خلال الحكم الذاتي على النفس لدفعها على ملازمة التمسك بالحق، والحكم الذاتي للوطن يتحقق بحكم الإنسان لذاته وضبطه لها، وهذه سياسة للنفس. ويذكر غاندي أن التمسك بالحق يعني التمسك بالله، ويوضح: (في عبارة "الله هو الحق" لاتعني مساوياً له، ولا تعني مجرد أنه صادق، الحق ليس مجرد صفة لله، بل إنه هو الحق ذاته. والحق في اللغة السنسكريتية تعني الوجود، فالله هو الوجود، ولا شيء سواه موجود. ومن ثم فكلما كنا صادقين أكثر، كنا إلى الله أقرب، فلا نكون...إلا بقدر مانحن صادقون). ويوضح غاندي مبدأ التمسك بالحق من خلال مراحل، والحق عند غاندي متلازم مع اللاعنف؛ حيث ذكر في كتابه:"شعائر الخلوة": (اللاعنف ليش شيئاً خاماً أعدّ للظهور، فعدم إيذاء أي شيء حي ليس إلا جزءاً من اللاعنف، فهذا أقل تعبير عنه، فمبدأ اللاعنف يخدشه أي ظن سيء أو كذب أو بغضاء أو تمني السوء لأحد.) ويقول: إن أصحاب القوة المادية غرباء عن الشجاعة، التي تعد لازمة ضرورية للمتمسكين بالحق، فهل تكون الشجاعة في نسف الآخرين من وراء مدفع، أم في صاحب ابتسامة يقترب من المدفع؟

وعاد غاندي إلى الهند عام 1915م وفي باله ضرورة اللحمة الدينية. وبعد الحرب العالمية الأولى، قاتل المسلمون في الهند من أجل وطنهم، من خلال الخلافة، التي كانت مهمة لا للمسلمين فقط بل لآخرين ممن يرون في الخلافة المعقل الأخير في وجه الاستعمار. وتأسست حركة الخلافة 1919م على يد شوكت علي ومحمد علي بمشاركة مولانا أبو الكلام آزاد، تلميذ مولانا شبلي النعماني، وقد انضم غاندي إلى القوى المساندة لحركة الخلافة، وتجلى الوفاق الهندوسي الإسلامي على رفض قوانين (رولت)، التي أمرت بالحبس الاحتياطي غير المحدود والمحاكمات المعجلة دون حق استئناف. وقد توافق القادة المسلمون الثلاثة على الأهداف منها حكم الوطن الذاتي، وعلى النهج: اللاعنف،كما تبناه المؤتمر الوطني الهندي. وكانت بداية انطلاق عدم التعاون مع قوانين (رولت) في 1919 لمدة 7 أسابيع، وكانت أول حركة satyagraha في الهند. وحذر غاندي الحكومة؛ إذا لم تلب مطالب المسلمين فسوف يشرع في حركة عدم التعاون في كل الهند. وعين مولانا آزاد رئيس حركة الخلافة المركزية لعدم التعاون، وكانت تعقد اجتماعاتها بالتعاقب مع اجتماعات المؤتمر الوطني الهندي وكان القادة المسلمون يحضرون اجتماعات الطرفين. وأعلن غاندي ساتياغراها عدم التعاون. وأصدر علماء الهند فتاوى تمنع المسلمين من التعاون مع البريطانيين. وتمت تهيئة مؤسسات وطنية تحل محل مؤسسات البريطانيين. ومن هذا المنطلق أرسل آزاد دعوة لغاندي لافتتاح المدرسة الإسلامية في كلكتا، لتحل محل المدرسة العليا.

وقد ألقى آزاد كلمة ثناء على الطلبة لتضحيتهم ومشقة ترك مدرسة معروفة من أجل مدرسة لم تجرب. والتفت إلى غاندي قائلاً: لايقدر قيمة الجواهر إلا الصائغ، وإنك ذلك البارع خبير جواهر التضحية والأصالة. وخلال هذه المدة، أعلن عن أن الوفاق الهندوسي الإسلامي أساس نجاح أي حركة وطنية. وشوكت علي هو أول من منح غاندي لقب المهاتما. وخلال 3 سنوات جاب غاندي البلاد مع القادة المسلمين حتى اعتقلوا جميعاً عام 1921م. وإضافة إلى العوامل المذكورة السابقة، فقد ساهمت أيضاً عوامل لاحقة في تشكل وعي غاندي وإدراكه وفهمه للإسلام من خلال قراءاته خلال السجن: كتاب شبلي النعماني عن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام في مجلدين، وكتاب أوراق من حياة أصحاب النبي لمولانا حضرة موهاني. وقد كتب في ذلك: غدوت مقتنعاً أكثر من قبل بأنّ الذي أحرز مكاناً للإسلام إنما هو قوة بساطة النبي وكمال تواضعه ودقة احترامه للعهود وشدة إخلاصه لأصحابه وأتباعه، وبسالته وإقدامه وثقته المطلقة بالله ورسالته. فهذه الصفات، لا السيف، سادت كل شيء أمامها وتغلبت على كل عقبة. وعام 1934م، بينما كان يلقي كلمة بمناسبة المولد النبوي قال: كان النبي فقيراً زهد في كل شيء، مع أنه كان بوسعه أن ينال الغنى لو أراد. حتى إنني ذرفت الدموع كما ذرفتم حين قرأت عما عانى من فاقة طوعاً واختياراً مع أهل بيته وأصحابه. فكيف يمكن لطالب حقيقة مثلي ألا يحترم من هو معلق دائماً بالله وسيره في الحياة دائماً في خشية الله ورحمته بالناس دائماً لاحدود لها.                                         

ويذكر الكتاب شخصية عبدالغفار خان من البشتون، من اوتمانزاي على الحدود الأفغانية وهو منحدر من النبي الكريم. انخرط الرجل في عمل اجتماعي وتعليمي واسع منشئاً مئات المدارس. وأصبح شخصية مرموقة بين البشتون، فمنحه أعيانها لقب بادشا خان عام 1919م، في اجتماع ضم 100 ألف شخص عرفاناً وتقديرًا. وانضم عبد الغفار لحركة الخلافة وتبنى عدم التعاون، فتم سجنه.  وقد قام خان بتأسيس حركة خدام الله في عام 1929م. في اوتمانزاي حيث ولد. وأدى جميع الأعضاء قسماً بالالتزام بخدمة الإنسانية ونبذ الثأر والانتقام وعيش حياة بسيطة والتزام مبدأ اللاعنف وخدمة جميع خلق الله دون ابتغاء مكافأة. وقد سمع عبدالغفار عن مبدأ ال satyagraha لغاندي ولكنه وصل لإدراك قيمة اللاعنف باستقلالية من خلال تحليل سيرة النبي صلوات الله عليه. وزاد اقتناعه بمبدأ اللاعنف عند معرفة غاندي، وقد سجن كثيراً بسبب أنشطته الخاصة باللاعنف. وعند خروجه من السجن عام 1924م، لم يختلف على زعامته أحد ولقبوه فخر الأفغان.

وفي عام 1928م، خلال اجتماع المؤتمر الوطني الهندي، كان غاندي يشدد على ضرورة تبني مبدأ اللاعنف، فقاطعه أحدهم: أنت جبان. فالتفت غاندي إليه وابتسم. وكان حاضراً وقتها عبدالغفار خان، وتأثر به تأثراً كبيراً. وفي نفس الوقت كان هناك اجتماع لحركة الخلافة يرأسه محمد علي، وفقد حينها أعصابه متبادلاً السباب مع موفد من البنجاب، وحينها قال عبدالغفار لمحمد علي: (أنت زعيمنا ونتمنى أن ترقى إلى هذا المقام، فيا حبّذا لوتحليت بشيء من الحلم والأناة.) فقال محمد علي: ياإلهي جاء الباتان الأجلاف ليعلموا محمد علي! وانصرف. 

لقد أجمل عبدالغفار الإسلام بثلاثة مفاهيم أساسية تجلت في حياة النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم: العمل واليقين والمحبة. وركّز اهتمامه على العهد النبوي المكي حيث كان المسلمون تحت حكم قريش.ففي حين يرى البعض أنها مرحلة ضعف المسلمين أمام عدو قاهر، مما اضطرهم إلى المقاومة اللاعنفية، إلّا أنّ عبدالغفار يرى العكس، حيث قال1929: سأعطيكم سلاحاً لن تقدر الشرطة ولا الجيش على الوقوف ضده، إنه سلاح النبي الكريم، سلاح الصبر والاستقامة. ويشدد عبدالغفار على أنّ قوة النبي لم تكن متأرجحة بل فسح لها في المدينة أن تتجلى. وقد لقب أعضاء حركة خدام الله بأصحاب القمصان الحمراء، لقيامهم بدباغة الأبيض لئلا يتسخ. وفي 1929 أطلق غاندي موجة عدم التعاون من أجل الاستقلال، بانضمام عبدالغفار ومن معه. وقرر غاندي أن يبدأ برفض ضريبة الملح في مسيرة على البحر. وتم اعتقال عبدالغفار فانضم السكان جميعاً لحركته، فاقتحمت القوات البريطانية البلدة واعتقلت زعماء خدام الله، فخرجت مجموعة كبيرة من المتظاهرين في سوق قصة خواني، فانطلقت سيارتان بريطانيتان مدرّعتان بسرعة وقتلت عدة أشخاص، وفتحت القوات النار على جموع الناس العزّل،فشكل أفراد خدام الله حائطاً بشرياً لمواجهة وابل الرصاص، صائحين الله أكبر وممسكين بالقرآن وهم راحلون عن الدنيا. وقتل ذلك اليوم 400 شخص بهذه الطريقة، ووجد في أغلب الجثث أكثر من 20 رصاصة، واستمرّت العملية أكثر من 6 ساعات في مطاردة أعضاء خدام الله. وفي تطور مثير، رفضت إحدى الكتائب البريطانية، أبطال الحرب العالمية الأولى، طاعة ضباطهم عندما أمروهم بإطلاق النار على أفراد خدام الله، فأُحيلوا إلى محاكم عسكرية وحُكم عليهم بعقوبات طويلة، ونتيجة هذه الكارثة لقي مبدأ اللاعنف تأييداً كبيراً، وتشكلت لجنة تحقيق في لندن حول العنف ضد خدام الله. ابن عبدالغفار ذكر بعد سنوات أنه دنا منه جندي سابق اسمه بيكون: كانت لدينا أوامر بسجن أعضاء القمصان الحمر سنتين مع الأشغال الشاقة، فكنتُ أسأل كل فرد: هل أنت من هذه الحركة؟يقول نعم، فأسأله:هل تريد الحرية، يقول نعم، أسأله إن أطلقتُ سراحك هل تعاود مافعلت؟ يقول نعم؛ فكنتُ أود لو أعانقه؛ ولكني كنتُ أكتب سنتين. حين يبحث امرئ عن أكثر الملتزمين عن مبدأ غاندي للتمسك بالحق واللاعنف سيجدها في خدام الله. وقد تطبق لديهم باعتباره مبدأ عقدياً. 

وفي غياب هيكل دولة فاعل يؤدي وظيفته، أو حتى تحت سلطة مستعمرة تحجب هذه الحقوق،قد يسأل سائل: من أين ينبغي للمرء أن يحظى بكرامته وحريته؟ والجواب عند غاندي يكمن في تراث المرء، وعند عبدالغفار في دينه. وهنا تجلى الوفاق الهندوسي الإسلامي الذي كان ينشده غاندي