آخر الأخبار

بيريل امبولو :  هل يلعب "الإخلاص " ضد " الوطن

سفير السودان ل القاهرة سابقاً عبد المحمود عبد الحليم يكتب:

كانت الاضواء تخرج  باهتة من نوافذ  المنازل البعيدة على امتداد الطريق البرى من دوالا إلى ياوندى وكأن نعاساً قد راودها... استسلم الركاب لوعثاء الطريق ومشقته، ورويدا تنخفض أصوات احاديثهم وضحكاتهم ويدب فيها الوهن.. ايماض بروق يتسلل ضوئها  للحافلة فينعكس على الوجوه المتعبة داخلها وصوت رعد، فقد تنهمر الأمطار دون استئذان.... وحدها "جيرمين" ظلت صامتة منذ أن بدأت الرحلة وقد بدأ عليها قلق وانشغال بينما استمر تحديقها عبر النافذة وكأنها تعلم أنها المرة الأخيرة التي تسلك ذلك الطريق ولن تعود إليه... فى اليوم الثالث بعد وصولها لياوندى كانت "جيرمين" وابنيها في صالة المغادرة بالمطار انتظاراً لرحلة من نوع آخر إلى باريس بعد أن رتبت امر هجرة إلى هناك... فى روايته "مدينة قاسية  Cruel Çìtý" يورد الأديب والروائي الكاميرونى مونقو بيتى Mongo Beti قصة الشاب باندا الذى يود تحقيق أمنية والدته بأن يقترن بفتاة أحلامه في حياتها وقبل أن ترحل فيسافر لمدينة  لبيع حصاد الموسم من ثمار الكاكاو لتوفير الموارد المالية اللازمة لزواجه الا أن الحظ يعانده فيفشل في مهمته.... هل ستلقى "جيرمين" المغادرة الى فرنسا ذات المصير وهى المتطلعة إلى حياة جديدة مع ابنيها خاصة بعد انفصالها عن زوجها واعتمادها على نفسها لتوفير أسباب الحياة للأسرة.. تقلع الطائرة الى باريس.. بدأ صوت المحركات لجيرمين كتراتيل وداع لمدينة شرسة، وكانت اهتزازات الطائرة مع الجيوب الهوائية تقطع حبل تفكيرها وتأملها لشكل ايام قادمات لم تستبين ملامحها بعد قبل أن تبتلعها بعد ساعات المدينة الكبيرة ايذاناً ببدء حياة جديدة فيها... اغلب الناس الذين يمكنهم تغيير شكل حياتنا لم نقابلهم بعد... جيرمين تلتقى سويسرياً بفرنسا يعجب بها ويتزوجها ثم ينتقل بها فى نهاية الأمر إلى سويسرا... يجد ابنها  "بيريل" الفرصة لاشباع هوايته في كرة القدم ويلفت الانظار إلى موهبته ويحصد لا ثمار الكاكاو التى خذلت "باندا " فى "مدينة قاسية" وإنما اعجاب متابعين كثر منذ أن التحق بنادى نوردستيرن ثم نادى بازل الذى صقل مواهبه ولعب معه بعقد أحترافى 91 مبارة وسجل 31 هدفاً، وبعدها بعامين لعب مع شالكة وبروسيا مونشنبلادباخ الالمانيين بين 2019 و2022 قبل الالتحاق حاليا بموناكو الفرنسى والذى يقدم معه مستويات جيدة..ظل بيريل امبولو ومنذ حصوله على الجنسية السويسرية عام 2014 نجماً لامعاً لمنتخبها الذى أدى معه 59 مباراة دولية بمافى ذلك كاس امم اوروبا ومونديال روسيا عام 2018....يقول امبولو أن المفاضلة واختيار المنتخب السويسرى او منتخب بلاده الكاميرون للعب معه كانت امراً صعباً وقاسياً، وكان من أفراد الأسرة من يؤيد هذا وذاك أيضاً...قال أنه عندما تم الاتصال به للعب مع منتخب الكاميرون استغرق الامر معه ستة أشهر قبل ان يقرر اللعب مع منتخب سويسرا، ولا بد أن ذلك قد أغضب الكثيرين... على أن الأمر المرعب حقاً كان وجود الكاميرون وسويسرا معاً فى المجموعة السابعة لمونديال قطر مع كل من البرازيل وصربيا، بل احرازه هدف الفوز الوحيد لسويسرا فى مرمى الكاميرون  مستفيدا من تمريرة شاكيرى العرضية ليودعها شباك الحارس اونانا... لكنه رفض الاحتفال بالهدف وشاهده الملايين حول العالم وفى استاد الجنوب بالوكرة حزيناً رغم انه قال قبل المباراة أن كرة القدم هى رياضة المشاعر، وأنه اذا احتفل فلن يكون ذلك ضد بلاده الأم بل لأنه يريد الفوز... وكان قد صرح أيضاً بأن حب بلاده يجرى فى دمه وأن اهله يعيشون هناك وأنه قد درج كثيراً على السفر لياوندى ودوالا ويرغب فى رد الجميل لبني وطنه من خلال منظمة أنشأها للأعمال الخيرية والاجتماعية... اوردت وكالات الأنباء صوراً لحشد غاضب من الناس قالت انهم حاولوا اقتحام منزل بيريل امبولو فى ياوندى احتجاجاً ورفضاً لاحرازه هدف الفوز ضد منتخب بلاده..واضح أن هذا الجدل سوف يستمر بين قادح ومادح فبمثلما عولمت كرة القدم تنقلات اللاعبين عولمت أيضاً بين المشاعر إذ يلعب اكثر من مائة من لاعبى كاس العالم بقطر لاندية وبلدان غير التى وُلدوا فيها.. فشاكيرى الذي هيأ الهدف لامبولو هربت أسرته من الصراعات فى اقليم كوسوفو وقدوس نجم منتخب إيران كان مسقط رأسه السويد وبالسنغال العديد من حملة الجنسية الفرنسية كالحارس ادوارمندى والمدافع عبدو كامارا وحارس الاكوادور ارجنتينى بينما يوجد المانى فى تشكيلة ويلز  وامريكى مع اليابان وغيرهم وغيرهم..ويقول هؤلاء ان الجنسية الجديدة هى تحقيق التميز  والنجومية وأن ذلك يستوجب الاخلاص لألوان المنتخبات التى يلعبون بها.. أما الجانب الآخر فيقول بداهة أن لا شئ يعدل الوطن.. وفى الوقت الذى يحيل الروائى الكاميرونى Mongo Beti للارث الاستعمارى والثقافة الرأسمالية اسباب خيبات الافارقة فان الأديب النيجيرى  شنوا اشيبى ينصح بعدم إضفاء الرومانسية romanticising على أوضاع ما قبل مرحلة استعمار أفريقيا... بين انتحاب الاكوادوريين..ودموع سواريز.. واغماءات الكوريين.. وبكاء نيمار وماسكب على الملاعب الخضراء من دماء ودموع  كانت النسخة القطرية للمنافسة العالمية للاعبين والمتفرجين على السواء ساحة أخرى وموسماً لفيضان المشاعر القومية ولحب الأوطان...