آخر الأخبار

التعصب مرض أم مواجهة تحديات؟!

بداية لابد من التطرق لتعريف بسيط لهذا الأمر من وجهات نظر مختلفة، حيث أن هناك من يقول أن التعصب هو الاعتقاد أو التصرفات التي تنطوي على أخذ مواقف دون تمحيص بسبب الغيرة وبحماس مفرط.

كما يعرّف الفيلسوف جورج سانتايانا "التعصب" بأنه "يضاعف مجهودك عندما تنسى هدفك"، و يُظهر المتعصب معايير صارمة للغاية وبتسامح قليل تجاه الأفكار أو الآراء المعارضة لمنطقه .

كما يُعرّف تينو ليشتسار مصطلح التعصب على أنه السعي وراء أو الدفاع عن شيء ما بطريقة متطرفة وعاطفية تتجاوز الحدود الطبيعية.

وهناك ايضاً التعصب الديني ، الذي يُعرّف بأنه الإيمان الأعمى والإستعداد لاضطهاد المعارضين وغياب وعي للواقع.

من جهة أخرى ، يقول نيل بوستمان،  في كتابه بعنوان "حديث مجنون، كلام مجنون (Crazy TalK) ، أن "مفتاح كل المعتقدات المتعصبة هو أنها تؤكد نفسها بنفسها، حيث تعتبر بعض المعتقدات متعصبة ليس لأنها "خاطئة" ولكن بسبب التعبير عنها بطريقة لا يمكن أبداً إظهارها كاذبة.

لكن بالمقابل هناك من يقول أن التعصب هو إضطرار لمواجهة تحديات الواقع الظالم الذي لا يمنحهم فرصة العدل بما هو مطلوب من التعاطي مع الحقوق سواء الدينية أو الإنسانية أو حتى المهنية مما يجعل الإنسان أكثر صلابة  في مواجهة ظروف التحديات المفروضة عليه مما يجعله في دائرة تعريف التعصب.

لذلك نجد أن ما بين هذا وذاك من التعريفات تداخلاً وصراعاً متناقضاً كالصراع ما بين الخير والشر، ولا يمكن أن يلتقيا أو أن نجعل كليهما صحيحاً إلا إذا أدخلنا عملية إستئصال لفكر الإقصاء والتغول على حق الآخر، وخلق عملية توازن منطقية وإعتراف حقيقي بأن هناك عناصر غائبة،  وإن توفرت هذه العناصر ستتوفر  حينها الليونة وتصبح البراغماتية هي السمة الإنسانية لكل أصحاب وجهات النظر المختلفة، مما يؤدي إلى حالة تلاقي وتعايش وتكامل إبداعية ، بدلاً من التعصب الذي يفضي للتحدي وللإقصاء والتصادم العنيف ومن ثم التخريب والصراع والدمار.

هذا الأمر يدفعني للدعوة بأن يكون هناك منطق وإستماع جيد للتفاصيل ولكل وجهات النظر المختلفة والعمل على إيجاد حلول سريعة وجذرية بعيداُ عن عملية الترقيع والتأجيل وصرف الأموال في غير مكانها،  التي لا تليق بدولة متقدمة ومتطورة وديمقراطية، خاصة أننا قد صادفنا حدثين هامين خلال الأيام الماضية ، أحدهما هو إحياء الذكرى الخامسة للإعتداء  الإرهابي على المركز الثقافي الإسلامي في مدينة كيبيك والذي راح ضحيته ستة أشخاص والعديد من الجرحى الذين ما زالوا يعانون مما أصابهم جراء ذلك الحادث الآثيم،  وهذا يذكرنا بفجوة لابد من العمل على تصحيح مسارها وتضييقها قدر الإمكان حتى لا يتكرر ما حدث من قبل مرة أخرى ولا يصبح هذا الأمر للإستغلال  فقط بدلاً من إيجاد الحلول الجذرية لمسبباته.

 أيضاً نحن أمام نموذج آخر من حالة التطرف المؤسفة بالتعبير عن الرأي وما نجم عنها من سلوك همجي لا يمكن القبول به ، وهو الذي خرج من البعض القليل ممن شاركوا بقافلة الشاحنات الرافضة للتطعيمات ليغيروا بذلك الصورة الناصعة للديمقراطية التي نعيشها وتحفظ لنا كرامتنا وحق حرية التعبير لنا، إلى الخشية من التعصب والتطرف والعنصرية التي بات واضحاً بأن هناك من يهدف إليها من وراء مثل هذا الحدث الإستثنائي والذي لا يمت بصلة لهوية وثقافة الكنديين بشكل عام.

ومن منطلق المواطنة الأمينة والصادقة والإنتماء الراسخ للهوية الكندية التي نعتز ونفخر بها ، لا يسعني إلا أن أقول بأنه قد حان الوقت للاستعداد الجيد لعمل إستراتيجيات ديناميكية تتعاطى مع مسببات الأحداث قبل وقوعها وليس التعاطى مع النتائج والكوارث الناجمة عنها ومن ثم يكون هناك العجز والتخبط.

هذا  بلا شك يتطلب فتح حوار موسع وفتح آفاق جديدة للمشاركة الفاعلة ، وإستنهاض الهمم والطاقات، لا بل التوقف عن التفرد والإستعراض وبيع الوهم في ظل الضغوطات الحياتية الكبيرة التي يمر بها الإنسان في هذه المنعطفات الزمنية والوبائية.

كما يتطلب أيضاً جهوداً جبارة تلتقي مع بعضها البعض بدون تعصب ولا مواجهة ، تعتمد مبدأ المشاركة أساساً للإلتقاء حول فكرة ضرورة الحفاظ على سلامة المجتمع كأولوية قصوى، والبناء والإرتقاء بالإنسان فكراً وسلوكاً أولاً.

هذا يتطلب أيضاً مبادرات فاعلة وليس تعبئة أوراق واستهلاك وقت ومن ثم تأدية وظيفة لها مقابل مادي بعيداً عن تأدية واجب وطني يحمى بلد بأكمله وأمنه القومي كضرورة وأولوية قصوى من كل التحديات التي تواجهه سواء الظاهر أو الباطن منها.

إذاً لابد في هذه الحالة من الإنفتاح تجاه الجميع حتى نذيب الفكر المتعصب الداعي للإقصاء والعنصرية والكراهية والإستحلال والعمل بقوة على نبذها وعزلها ، وإحتواء الجميع تحت مظلة الهوية وحب البلد والإنتماء إليه بكل ما تعنيه الكلمة من معنى،  لتوريث ثقافة صحية لأجيال قادمة تترعرع على الحب والعطاء والتعاون والتعايش والشراكة وقبول الآخر .

هذا هو الوقت المناسب لكي نخرج من دائرة التحديات إلى آفاق من صناعة الأمل والبدء بعملية بناء الإنسان لتعود بالنفع على كل فرد في هذا البلد لننهض سوياً بمجتمعاتنا وجعلها مجتمعات متعايشة ومندمجة ومتكاملة تحفظ الهوية والثقافة ولا إنصهار فيها لثقافة في ثقافة أخرى ، ولكن هناك إستثمار بكل طاقات أبنائها من مختلف ثقافاتهم ودياناتهم، من أجل رخاء وإزدهار بلادها والإرتقاء بافرادها.

حينها فقط لن نعود لكي نسمع كلمة تعصب ونبحث في تفسيراتها أو ننحاز لهذا الرأي أو ذاك لا بل سنكون جميعنا منشغلين بالإبداع أكثر وأكثر وبكيفية العمل من أجل غد افضل لنصنع المستقبل لأبنائنا ، لا من أجل هدم ما تم بنائه ونعود بذلك للخلف،  بدلاً من أن نتقدم للأمام،  ولهذا يجب أن نزيد من تقدمنا أكثر وأكثر بما يليق بدولتنا وديمقراطيتنا وهويتنا.

في النهاية لا أستطيع القول إن التعصب مرض إلا إذا كان مبنياً على فرضيات خاطئة ورؤى متطرفة وليس من أجل مبدأ مبني على تمسك بحقوق أو رغبة بالمحافظة على كرامة!.