آخر الأخبار

الخبير بالشؤون الدولية مسعود معلوف: أزمة كازاخستان لم تكن في الحسبان

في مقاله له تحت عنوان اختص بها صحيفة الجمهورية اللبنانية علق فيها الخبير بالشؤون الدولية على أحداث كازخستان بالقول " في الوقت الذي كانت فيه الأنظار والإهتمامات الدولية متجهة بانشغال كبير نحو أوكرانيا، حيث تحشد روسيا أكثر من 100 ألف جندي على الحدود الروسية - الأوكرانية مهدّدة باجتياح هذه الدولة، وفي الوقت الذي كانت تجري فيه الإستعدادات لاجتماعات روسية - أميركية في العاشر من الشهر الجاري في جنيف، يليها بعد يومين اجتماع مجلس حلف شمال الأطلسي مع روسيا، ومن ثم اجتماع المنظمة الأوروبية للتعاون والإنماء، كل ذلك من أجل السعي لإيجاد حل للأزمة القائمة بين روسيا والدول الغربية بشأن أوكرانيا، في هذا الوقت بالذات طرأت أزمة كازاخستان والتدخّل العسكري الروسي في هذا البلد.

لا بدّ من التوضيح في البداية أنّ كازاخستان، الواقعة في وسط آسيا، كانت من دول الإتحاد السوفياتي الذي انحلّ في أواخر العام 1991، ومساحتها توازي مساحة مجموع دول أوروبا الغربية، وهي غنية بالموارد الطبيعية وخصوصاً بالغاز المسيَل، وحوالى خِمس سكانها هم من أصول روسية، وفيها قاعدة روسية لإطلاق المراكب الفضائية، وكان يرأسها منذ قبل استقلالها عن الإتحاد السوفياتي في 16 كانون الأول 1991 بأكثر من سنة الرئيس نور سلطان نزارباييف الذي بقي في سدّة الرئاسة حتى آذار 2019، وقد تلاه في الرئاسة قاسم جومارت توكاييف، الذي اختاره نزارباييف بنفسه قبل مغادرته الرئاسة واستلامه مجلس الأمن في البلاد التي يتمتع فيها بسلطة قوية جداً.

لقد بدأت التظاهرات والإحتجاجات عندما أعلنت حكومة كازاخستان رفع أسعار المحروقات في الأول من هذا الشهر، فحاولت السلطات الحكومية قمع المتظاهرين الذين أعربوا عن غضبهم الشديد عبر إضرام النيران في بعض المباني الحكومية وغيرها، مع العلم أنّ الرجوع عن رفع أسعار المحروقات واستقالة الحكومة لم يؤديا الى وقف الإحتجاجات في شوارع العاصمة ومدن أخرى، ما يدل الى أنّ مسألة أسعار المحروقات لم تكن السبب الوحيد في التفجير الإجتماعي الذي وقع، بل ربما كانت بمثابة الشعيرة التي قصمت ظهر البعير.

الرئيس السابق نزارباييف، الذي دام حكمه حوالى 30 عاماً، تميّز بالتسلّط والقمع واستعمال السلطة لاستفادته الشخصية مع عائلته والمحسوبين، ولم يشأ أن يستقيل من الرئاسة إلّا بعد أن ضمن الإستمرار في الحكم من خلال ترؤسه مجلس الأمن الوطني واختياره بنفسه خلفه في الرئاسة، وبقي بذلك هو صاحب القرار في كل شؤون الحكم، وسط تململ شعبي متزايد.

على هذه الخلفية من الغضب الشعبي المكبوت، جاء قرار رفع أسعار المحروقات ليفجّر الشارع بأعمال عنف فاجأت الجميع داخل البلاد وخارجها بتوسعها، وبسرعة انتشارها، وبالخطر الذي شكّلته على القيادة، لدرجة أنّ الرئيس توكاييف أعطى الأوامر للجنود بإطلاق النار مباشرة على المتظاهرين الذين وصفهم بالإرهابيين الأجانب المدربين على أعمال الشغب، وطلب المساعدة من حلفاء كازاخستان الخمسة في «معاهدة الأمن الجماعي» لإرسال قوات لحفظ السلام في البلاد.

جدير بالذكر هنا، أنّ «معاهدة الأمن الجماعي»، التي تضمّ كلاً من روسيا وأرمينيا وكازاخستان وكيرغيزستان وطاجيكستان وأوزباكستان، أُنشئت في 15 أيار 1992 بمساعٍ من روسيا بعد انحلال الإتحاد السوفياتي، في سبيل إبقاء بعض النفوذ الروسي في منطقة آسيا الوسطى، ومن أهداف المعاهدة تقديم المساعدة للدولة العضو التي تتعرّض لأعمال إرهاب أو لاعتداء خارجي.

لكي يتمكن الرئيس توكاييف من طلب مساعدة الدول الأعضاء في المعاهدة، اتهم المتظاهرين في بلاده بأنّهم «إرهابيون أجانب»، ويشكّلون خطراً كبيراً على الدولة، ولذلك على الدول الأعضاء مساعدة كازاخستان لمواجهة هذا الخطر، علماً أنّ هذه المعاهدة هي بإشراف روسي تام، وإحدى غايات إنشائها، بالإضافة الى تأمين النفوذ الروسي في المنطقة، كانت لمواجهة حلف شمال الأطلسي بعد انحلال حلف وارسو عند انحلال الإتحاد السوفياتي.

لم تتأخّر دول المعاهدة في إرسال قوة «حفظ السلام» الى كازاخستان، وجلّها من القوات الروسية التي جاءت لتدعم النظام القائم وتحميه من المتظاهرين الذين يطالبون بإسقاطه وبتنحية الرئيس السابق نزارباييف الذي غادر البلاد مع عائلته على ما يبدو.

لقد جاءت أزمة أفغانستان لتدعم، وإن بصورة غير مباشرة، سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الساعي الى توسيع نفوذه في المنطقة، والى إثبات القوة الروسية بعد ضمّه شبه جزيرة القرم عام 2014، ثم تدخّله الناجح في سوريا، وحشده قوات عسكرية ضخمة على حدود بلاده مع أوكرانيا لمنع هذه الدولة من الإنضمام الى حلف شمال الأطلسي أو الى الإتحاد الأوروبي، بالرغم من أنّ أكثرية الأوكرانيين يميلون نحو الغرب، وقد صوّتوا بأغلبيتهم للرئيس الذي يسعى الى التوجّه غرباً والإبتعاد عن النفوذ الروسي الداعم للإنفصاليين في شمال-شرقي البلاد في منطقة دونباس.

من خلال أزمة كازاخستان المفاجئة، سيسعى الرئيس بوتين الى تعزيز مواقفه التفاوضية مع الغرب في المناسبات الثلاث المذكورة أعلاه، مظهراً استعداد بلاده لاستعمال القوة العسكرية عند الضرورة مثلما فعل في كازاخستان، وإن كان قد أعلن أكثر من مرة أنّه لا ينوي اجتياح أوكرانيا، ولكنه مصرّ على عدم السماح لهذه الدولة بالإنضمام رسمياً الى اي من المنظمات الغربية، وهو بذلك كأنّه يمسك بالعصا ويقول إنّه لا ينوي استعمالها، وعلى الآخرين أن يتكهنوا بما يضمره فعلياً.

لقد أثار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في أحد تصاريحه موضوع التدخّل العسكري الروسي في كازاخستان، متسائلاً عن الغاية من ذلك دون انتقاده علناً حتى الآن، ربما لكون الولايات المتحدة بانتظار التطورات على الأرض في كازاخستان، وما إذا كانت المعارضة في هذا البلد ستقاوم القوات الروسية التي قد تجد نفسها في وضع صعب قد يؤدي الى إلهاء روسيا بعض الشيء عن أوكرانيا، وبالتالي إضعاف موقفها التفاوضي في اجتماعاتها المقبلة مع الغرب.

لقد عقد حلف شمال الأطلسي في السابع من الشهر الجاري اجتماعاً افتراضياً لوزراء خارجية الدول الأعضاء الثلاثين، كان مقرّراً قبل أحداث كازاخستان، وحذّر الوزراء روسيا بأنّ أي اعتداء على أوكرانيا سيكلّفها ثمناً باهظاً، وأنّ الحلفاء مستمرون في الوقوف الى جانب اوكرانيا ويدعمون دعماً كاملاً سيادتها وسلامة أراضيها، مع تأييدهم التام لمبدأ حق الدول في تقرير سلوكها وتحالفاتها.

من الملفت أنّ هذا التصريح لوزراء خارجية دول حلف شمال الأطلسي جاء بعد الدخول العسكري الروسي المحدود حتى الآن الى كازاخستان، علماً أنّ الحلف لم يعلن بوضوح ما هو الثمن الذي ستدفعه روسيا في حال اجتياحها لأوكرانيا، تاركاً الفريق الروسي يتكهن بما ستكون عليه نتائج الغزو، مثلما الغرب في وضع التكهن بما ستفعله روسيا، وكل ذلك بانتظار جولات المفاوضات المقرّرة في الأيام القليلة المقبلة.

يبدو أنّ كازاخستان قد تصبح، وبصورة مفاجئة، المحور الذي سيتحدّد من خلاله مستقبل الوضع في أوكرانيا وآسيا الوسطى، وكذلك مستقبل علاقات روسيا مع الغرب. فروسيا من جهتها ستستغل وجودها العسكري في كازاخستان لإظهار قوتها وعدم تردّدها في استعمال القوة العسكرية لحماية مصالحها والمحافظة على نفوذها في آسيا الوسطى وأوكرانيا وبعض دول الشرق الأوسط وفي طليعتها سوريا، كما انّ الولايات المتحدة من جهتها ومعها دول حلف شمال الأطلسي ودول الإتحاد الأوروبي، قد تحاول دعم المتظاهرين في كازاخستان وتحويل هذه الإحتجاجات الى ثورة قد تؤدي الى مزيد من التدخّل الروسي في هذا البلد، متأملين من جراء ذلك إضعاف روسيا وبالتالي التخفيف من ضغطها على أوكرانيا.

ومن هذا المنطلق، تسعى الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الى وضع حدّ لمحاولات الرئيس بوتين استعادة البعض من أمجاد ونفوذ الإتحاد السوفياتي الضائعة، لا سيما بعد انضمام عدد غير قليل من دول الإتحاد بعد انحلاله الى حلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي، ووصول هذا الحلف الى الحدود الروسية.

إنّ التطورات المرتقبة في أفغانستان، على ما يبدو، سيكون لها تأثير كبير على مستقبل العلاقات الروسية - الغربية، وخصوصاً على المفاوضات المقرّر عقدها في خلال هذا الأسبوع بين روسيا والدول الغربية، وكذلك على الإحتمال المتزايد في العودة الى الحرب الباردة بين الغرب والشرق، لا سيما في ضوء المواقف المتقاربة بين الصين وروسيا في مواجهة الولايات المتحدة، والتأييد الصيني العلني والواضح لرئيس كازاخستان توكاييف في موقفه من الإحتجاجت الجارية في بلاده.