آخر الأخبار

ثورة قلم ...

عندما كتبت أولى مقالاتي في بدايات إنطلاق صحيفتنا الموقرة هذه، كان بعنوان "كندا هي لؤلؤة الشرق" ، لم يكن قلمي منذ بداياته مرتعشاً، بل كان شامخاً ويعكس حالة ثورة مشروعة مليئة بإلإيمان والإندفاع القوي،  والرغبة الجامحة الصادقة برد الجميل ، وهي كانت لغة الفصل على الدوام، وليس لغة مهزوزة غير متماسكة تفضح قائلها كالكثيرين الذين بدأت صورة مصداقيتهم المهزوزة تنهار رويداً رويداً، لأن إكتشاف الحقيقة غالباً لا يتأخر ولا يأخذ وقتاً حتى يتم الوصول إليه، وإن طالت معي لأكثر من عشرين عاماً كساها الألم والحيرة من الحقد الأعمى الذي حاصرني وأصاب الأبرياء ممن هم معي بكل مكونات حياتهم. إلا أنني كنت على الدوام راسخاً مؤمنأ بأنني أمتلك مفتاح الثورة، ثورة القلم!.

لذلك كان لابد من اللجوء لسيف يحمل معه ثورة إنسانية بعنوان "كفى ولابد من النهضة" والمضي قُدماً في مواجهة كل ما هو غير سوي وظالم.

فكان هذا السيف هو الإعلام الذي يمثل سلطة الحق إن تم ممارسته في طريق الحق ومن أجل الحق، وقد آمنت منذ البداية بأن الكلمة لابد أن تكون واضحة، قوية، مستقلة، ومباشرة، وأن تكون حيادية بمعنى أنها حرة، وأن لا تكون موجهة بمعنى أن لا  تكون مأجورة،  ولأنني أؤمن بأن أهمية الكلمة تكمن في كيفية طرحها، فقد اتخذت القرار بأن لا أفسح لها مجالاً لكي يكون لها لها مكان في المنتصف أو في المنطقة الرمادية .

وأجمل تعريف قرأته للكلمة التي تمثل ثورة القلم ، هو ما كتبه الشاعر والأديب والمفكر والمؤلف المسرحي عبد الرحمن الشرقاوي في مسرحيته الشعرية " الحسين ثائراً"، واقتطف منها هذا الجزء.."عندما طلب الوليد حاكم المدينة المنورة من الحسين بأن يبايع يزيد بن عبد الملك قال له: نحن لا نطلب إلا كلمة، فلتقل بايعت واذهب بسلام لجموع الفقراء.. فلتقلها واذهب حقناً للدماء، فلتقلها ما أيسرها، إن هي إلا كلمة..

فرد عليه الحسين قائلاً" كبرت الكلمة.. وهل البيعة إلا كلمة .. وما دين المرء سوى كلمة .. وما شرف الرجل سوى كلمة.. ما عهد الخالق سوى كلمة.. أتعرف ما معنى الكلمة؟؟ كبرت الكلمة ، فما دين المرئ سوى الكلمة، وما شرف الرجل سوى الكلمة، وما هو عهد رب الكون سوى الكلمة ، أتعرف معنى الكلمة ، فمفتاتح الجنة في كلمة ودخول النار في كلمة ، وقضاء الخالق هو الكلمة ...... فالكلمة لو تعرف حرمة، ستكون هي زاد مذخور ، وهي نور، وبعض الكلمات قبور..".

لذلك لم يكن يفهم البعض أن بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري ، والكلمة الصادقة هي فرقان بين الحق والباطل، وبين شريف وبغي، لا بل إن الكلمة الأمينة والصادقة هي نور يضيئ عتمة الجهل ويكشف الحقيقة ، فإن أٌحسن استخدامها بشجاعة وأمانة كانت رفعة للمجتمعات، وإن أٌسيء استخدامها وتم تجييرها لتمرير فكر مشوه كانت فتنة ونقمة على أي مجتمع.

إذاً، الكلمة عندما يخطها القلم الحر، تكون على الداوم حصناً للحرية عند من يشعر بأنها أمانة ومسؤولية، وشرف الرجل ومكانته هي الكلمة، وكم من الرجال لا يعرفون معنى الكلمة في هذا الزمن القبيح الذي أفسح لأمثال هؤلاء طريق في ظلمة الليل ، ليستبيحوا كل القيم الإنسانية،  ولكن القدر قد شاء بأن تكون ثورة القلم هي التي تخط الكلمة التي تقف لمثل هؤلاء العابثين بالمرصاد وبدون عنف كما يؤمنون ويعتقدون!.

من هنا لا أرى أن كل من قال كلمة يعرف ميزانها..... لذلك ردي على المطبلين والمزمرين والمشهرين والمأجورين سيكون بكلمة، من قلم حرّ وفكر نظيف سوي، وإعلام محايد ونزيه بحيث يكون سيفاً للكرامة الإنسانية.

لماذا أقول هذا الكلام لأن هناك الكثيرين ممن يجهلون رسالة الإعلام ويعتقدون بأنه مجرد وجاهة وشهرة فقط ، ولا يدركون بأن للإعلام رسالة أخلاقية مهمة ومؤثرة ،  رسالة تتطلب أمانة في اختيار الكلمة المناسبة على اعتبار انها من أهم المصادر التي يعتمد فيها الإعلامي على تشكيل الوعي الجمعي.. ويمكننا تشبيه العمل الإعلامي بحقل الألغام، لذلك لا يجيد السير فيه إلا الصادقين الذين يجيدون التعامل مع كل عناصر هذه المهنة وهمومها بالحكمة والمصداقية والاتزان.

إن الإعلامي الحقيقي يجب أن تتوفر لديه قدرات تحاكي التحديات المحيطة بهذه المهنة من جهة، ومن جهة أخرى لابد أن يكون لديه ضمير حي ينبض بالإيمان والاستعداد للتضحية بالوقت والجهد والمال، فالأمر ليس عبثياً أو مجرد مغامرة غير محسوبة أو حكاية عابرة، أو وسيلة للاستعراض ، كما يظن بعض المتطفلين على هذه المهنة بدون معرفة تفاصيل هي غائبة عن عقولهم  ويحصرونها فقط بحلاوة اللسان أو بالقدرة على النفاق هنا أو هناك.

نعم ، إن البعض في وسطنا العربي في المهجر يظنون بأن مهنة الإعلام هي مهنة فهلوة ومن يسير في طريقها عليه أن يتقن فنونها وأن يرضي هذا وذاك أو يسترضي هذا أو ذاك، أو يحترف دغدغة مشاعر جمهور متعطش لسماع معلومة من هنا وهناك ، وفي تقديري أن جميع هؤلاء لم يحظوا بالإستمرارية والنجاة من عواقب التخلي عن شرف المهنة وتقدير معنى ومتطلبات أمانة الكلمة.

وهنا أرى أن القول له ضرورويات ملحة ، وهي إما أن نكون في هذا الفضاء أخوة بعيداً عن المهاترات الجانبية والخبيثة أو سينهار كل شيء، حيث أننا أمام مرحلة زمنية تاريخية غير مسبوقة ، من أجل تعزيز التعايش والتآخي والإنطلاق في مسايرة طريق الثورة التكنولوجية والتوجه للطاقة النظيفة والذكاء الإصطناعي في العالم.

وهذا يحمل معه إستشعاراً حقيقياً بالمخاطر المحيطة بالجميع، ليس فقط من الداء والدواء ، وإنما من الإرهاب والتطرف أيضاً ، مما يعجل الحاجة لدعم ثورة القلم الذي يتحلى بروح المسؤولية والأمانة والشعور والإنتماء للمكان والهوية.

من هنا أجد أن الإعلام بما يحمله من أهمية بالغة حيال إختيار الكلمة المؤثرة ونقل الحقيقة كما هي، سيكون له أثر بالغ في مواجهة مثل هذه التحديات، كما أنه يمثل العمود الفقري في مواجهة الغزو الفكري المتطرف الذي يمنع هذا التعايش الإنساني المُلح.

وفي النهاية أوجز كل ما أريد قوله،  بأن الإعلام بحر هائج،  ليس كل هاو ومشاكس يستطيع أن يبحر فيه من خلال فتح منبر هنا أو هناك.

لذلك وأنا كلي إيمان بأن هناك الكثير من الطاقات من أبناء الجالية العربية الموقرة التي يمكن الإستثمار فيها ، أجد أن هناك أمل بالرغم من حالات التشويش والتشتيت المقصودة والمتعمدة لهذه الطاقات، وهي التي تعكس حالة التشتت والتشرذم السياسي العربي الذي في غالبنا رفضناه ونرفضه ومن المفترض أننا تركناه وراء ظهورنا لنبني مستقبل يقود الحكاية ويرسم الأمل ويفتح الطريق ويفسح المجال أمام الجميع للمساهمة والإبداع والمشاركة البناءة، والإندماج في مجتمعات قبلنا العيش فيها ومعها بأمن وأمان وسلام، ولكن للأسف هناك ما يسكننا ويأسرنا بحجة الهوية.

وأختم بالقول ما قلته في لقائي مؤخراً مع إحدى الوسائل الإعلامية الموقرة، حيث دعوت أبناء جاليتنا العربية أن يعوا جيداً بأنه بات هناك حاجة ملحة لتجديد الخطاب والإرتقاء بالفكر، حيث لا يوجد مجتمع بدون قيادة ، فلا تفسحوا المجال أمام قيادات ضعيفة ومهزوزة ومتهالكة الفكر،  تسئ إستخدام الكلمة وتجير طاقاتنا وتجعل من همومنا وآلامنا وأوجاعنا وتطلعتنا وأحلامنا جسراً لتحقيق مصالحها الفردية لتعيد بذلك تصنيع ألهة بيننا هنا في المغترب، فكونوا أنتم وحققوا ذاتكم وأبدعوا في مجالاتكم في هذا البلد العظيم الذي منحكم كل الفرص لترتقوا بأنفسكم ومكانتكم، وافسحوا المجال لعقولكم لكي تميز ما بين الغث والسمين ، ستكونوا بذلك خير سفراء لهويتكم وثقافتكم وللبلد الذي تعيشون فيه وتحملون هويته وجواز سفره، وهو على الدوام يستحق منكم الأجمل والأفضل وكل العطاء حتى لو كان بلا حدود.